الثلاثاء، 12 مارس 2013

هل أدلكم على شجرة الخلد ؟! الجزء الثاني


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على خير المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين, وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

 تتمة الجزء الاول ...

الطبيعة البشرية
قال تعالى: {ولقد عَهِدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد لهُ عزماً 115} سورة طه.
[يقول تعالى ذكره : وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرّف لهم في هذا القرآن من الوعيد عهدي ، ويخالفوا أمري ، ويتركوا طاعتي ، ويتبعوا أمر عدّوهم إبليس ، ويطيعوه في خلاف أمري ، فقديما ما فعل ذلك أبوهم آدم (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى) يقول : ولقد وصينا آدم وقلنا له (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ) ووسوس إليه الشيطان فأطاعه ، وخالف أمري ، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ.
قال أبو جعفر : وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء ، يقال منه : عزم فلان على كذا : إذا اعتقد عليه ونواه ، ومن اعتقاد القلب : حفظ الشيء ، ومنه الصبر على الشيء ، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى ، وهو قوله ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) فيكون تأويله : ولم نجد له عزم قلب ، على الوفاء لله بعهده ، ولا على حفظ ما عهد إليه.
يقول تعالى ذكره معلما نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ما كان من تضييع آدم عهده ، ومعرّفه بذلك أن ولده لن يعدوا أن يكونوا في ذلك على منهاجه ، إلا من عصمه الله منهم] تفسير الطبري.

إن الله سبحانه وتعالى عالمٌ بمخلوقاته, خلق الملائكة من نور فلا تعرف الظُلمة والمعصية إليها سبيل, وخلق الجان من نار, فهي سريعة في الطاعة, وسريعة أيضاً في العصيان, وخلق الإنسان من طين, والطين من السهل تطويعها وتشكيلها إلى الطاعة أو المعصية. عن أبي هريرة رضي الله عنه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ‏{‏كل إنسان تلده أمه على الفطرة‏.‏ وأبواه بَعدْ، يهودانه وينصرانه ويُمَجِسانه‏.‏ فإن كانا مسلمين فمسلم‏.‏ كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه، إلا مريم وابنها‏}. ‏رواهُ مسلم في صحيحه.
وفي بداية خلقهما كان آدم وزوجهُ قريبين إلى طاعة الله واجتناب نواهيه, ثم بعد أن طال عليهما الأمد واستغرقا في نعيم الجنة, بدءا شيئاً فشيئاً ينسيا ما عَهِدَ الله به إليهما من الأمر, {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ }[الحديد, 16].
وبعد أن بدء إبليس مساعيه في فتنة آدم وزوجه, ومع اقتراب الشيطان الناري من هذه الطينة البشرية, فإنها أخذت تجف وتيبس حتى صار بإمكان هذا الشيطان كسرها, {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة, 74]. ولهذا فإن الله عز وجل حذر آدم وزوجه من الشيطان باعتباره أكبر عدو للإنسان, قال تعالى: { نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف,22].

وبالقياس إلى طبيعة البشر وقابليتهم للنسيان وترك أوامر الرحمَن, فإنهُ لم يكن بالإمكان أن يتجنب آدم وحواء الوقوع في الخطأ والعصيان, وإلا لكانا مَلَكان.
ويخطأ بعض الناس بظنهم وقولهم: أن آدم وحواء –عليهما السلام- هما سبب حرمان البشر من العيش الرغيد في الجِنان.
والصواب هو أنهُ لو لم يُخطأ آدم وحواء وينزعا لباسهما لما قُدِرَ أن يكون لهما عقِبٌ من البشر حتى الآن, فكيف لآدم وحواء أن يحرموا ذريتهم من حياة الجنة, وإنشاء الذرية كما فَصَلت كان هو أحد أسباب خروجهم منها إلى الأرض!
وإنما هو أمرٌ قضاه الله الرحمَن قبل أن يخلق الإنسان, و لا جدوى من تأسف بني آدم على شيءٍ لم يكن مقدراً لهم إدراكه, وقبل أن يعكف بني البشر على معاتبة الأبوان آدم وحواء – عليهما السلام- على معصيتهم في الجنة, فلينظروا إلى سيل المعاصي التي هم آخذين بارتكابها ليلاً ونهاراً, سراً وعلانية, دون أن يكون في حسبانهم التوبة وطلب المغفرة من الله على هذه المعاصي, أسوةً بالأبوين الذين لم يسعهم أن يكونوا من العُصاة المُعاندين المتبعين لدروب الشياطين,  قال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ 23} الأعراف.

عن أبي أمامة قال : (لو أن أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق الله تعالى آدم إلى يوم الساعة ، ووضعت في كفة ميزان. ووضع حلم آدم في الكفة الأخرى ، لرجح حلمه بأحلامهم ، وقد قال الله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}) تفسير الطبري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {احتج آدم وموسى . فقال موسى : يا آدم ! أنت أبونا . خيبتنا وأخرجتنا من الجنة . فقال له آدم : أنت موسى . اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده ، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى . فحج آدم موسى} . وفي حديث ابن أبي عمر وابن عبدة . قال أحدهما : {خط}. وقال الآخر : {كتب لك التوراة بيده} صحيح مُسلم.

وتؤكد هذه الرواية على أنهُ لا ينبغي لأحدٍ من البشر حتى لو كان موسى ابن عمران – عليه السلام- بأن يذكر آدم – عليه السلام- بخطيئتهِ وأن ينسب إليه سبب عدم سكن ذريته في الجنة, فهو أمرٌ قدرهُ الله على آدم لا محالة ويفوق طاقتهُ على دفعهِ.

وأما نسبة آدم –عليه السلام- الخطيئة إلى نفسه, فهو من باب الاعتراف بالذنب والضعف الإنساني الذي اعتراه وزوجه.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: {يجمع الله تبارك وتعالى الناس. فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة . فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة . فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ! لست بصاحب ذلك . اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله . قال فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك . إنما كنت خليلا من وراء وراء . اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليما . فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول : لست بصاحب ذلك . اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه . فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم : لست بصاحب ذلك . فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم . فيقوم فيؤذن له . .وترسل الأمانة والرحم . فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا . فيمر أولكم كالبرق ، قال قلت : بأبي أنت وأمي ! أي شيء كمر البرق ؟ قال : ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح . ثم كمر الطير وشد الرحال . تجري بهم أعمالهم . ونبيكم قائم على الصراط يقول : رب ! سلم سلم . حتى تعجز أعمال العباد . حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا . قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة . مأمورة بأخذ من أمرت به . فمخدوش ناج ومكدوس في النار . والذي نفس أبي هريرة بيده ! إن قعر جهنم لسبعون خريفا} صحيح مسلم.
قال تعالى: {يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمَن ورضي له قولاً 109} طه.
ولما أن جاء الناس إلى آدم يوم القيامة يستشفعونهُ على الصراط حتى يُسلمهم الله فيعبرون إلى الجنة, فإنهُ إشفاقاً من ذلك الموقف العصيب, وخشيةً على ذريته من أن لا يكون خير شفيعٍ يرجونهُ, وإقراراً منهُ بأن من ولده من هم أكثر صلاحاً وقُرباً ومكانةً عند رب العالمين, فقد لاذ من ذلك كله بأن ذكَرَ نفسهُ بخطيئتهِ ليصرف الناس عنه تلك الساعة.
وإن الإنسان إذا ما أراد التهرب من مهمةٍ ثقيلة وشيءٍ يخشاهُ أو لا يرى نفسهُ أهلاً لهُ, اختلق الأعذار وتذرع بما فيه وما ليس فيهِ من النقائص, وذاك قول آدم عليه السلام لأبناءه: {وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ؟}, فهو حقيقةً لم يُخْرج إلا نفسهُ وزوجهُ من الجنة, ولم يكن مقدراً على الإطلاق أن يُنشأ ذريتهُ في الجنة, وقد شرحت ذلك في الفقرات السابقة.
وإنهُ – عله السلام- لم يجاوز الحقيقة بقوله: {وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم}, وقد كانت خطيئة أبيهم كما ذكرت هي نزع اللباس وتعدي حدود الله, وإن الذين سيتهاوون من أبناءه عن الصراط ويسقطون في النار فلا يدخلون الجنة وهم عنها مُبعَدين, هم الذين نزعوا لباس الحياء, وشقوا رداء طاعة الرحمَن, وماتوا وهم سَمَاعيين لوساوس الشيطان, فهؤلاء لن تنفعهم شفاعة الشافعين, ولا يهلك على الله إلا الهالكين.

دخول آدم وزوجه إلى الجنة من باب التكريم لا التخليد
قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة... 30},.., {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين 34 وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة...} البقرة.
بعد أن فرغَ الله من خلق خليفته المُنتظر في الأرض آدم – عليه السلام- وجعل الملائكة تسجد لهُ تكريماً وتعظيماً لشأنه, لم يكن الله ليعْقُب ذلك بإسكان آدم وزوجه في الأرض مباشرةً ليجدا فيها العناء والتعب, لأنهما سوف يستغربان من انتقالهما المُباشر وغير المُبرر من حضرة وعناية الله الرحمَن إلى الحياة الدُنيا, وسيظُنان أن الله ابتلاهُما في حياةٍ صعبة لا يستحقونها دون عقيدة ومنهج واضح, لذا فإن الله أتبعَ تكريمه لأول البشر آدم (عليه السلام) بسكن الجِنان, وتكفلَ به وزوجهُ وجعل أمر بقاءهما في هذا الرغد من العيش مرهونٌ باجتناب نواهيه, حتى إذا غلب الطبع الإنساني على قلبيهما ونسيا أمر الله ونهيه, لقنهم الرحمن الدرس الأول والأهم في بداية رحلتهم في الحياة, وعلمهم عقيدة الذنب والوقوع في معصيته, وأنها سبب زوال النِعم والخُسران والانتقال من حالٍ إلى حالٍ دونه, قال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم  53} الأنفال.
وهكذا فإن الجنة لم تكن لآدم –عليهم السلام- سوى استكمالاً لتكريمه والاحتفاء به في أول خلقهِ وحياته, وهذا من لطف الله وعنايته بآدم وزوجه, وتمهيداً لهما قبل أن ينتقلا إلى الأرض وجهتهم الرئيسية التي أراد الله أن يستخلفهم فيها ويُخرِجا فيها سائر ذريتهم, ليُثيب المُحسنين منهم ويدخلهم في جنات النعيم خالدين, ويُعاقب المُسيئين ويدخلهم في نار الجحيم خالدين.

وقد كانت الجنة بمثابة برنامج تأهيلي وتدريبي لآدم وحواء قبل استقرارهما في الأرض, ليتعلما معنى الطاعة ويعرفا الفرق بينها وبين المعصية, وليعرفا أن لهم عدوٌ مُبين مُتربص بهم ساع ٍ وراء فتنتهم عن النعيم المُقيم, وهو إبليس اللعين.

التعري.. الخطيئة الأولى وقاصمة الظهور
قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 26} الأعراف.
إن لباس بني آدم دينهُ, وزينتهُ عقلهُ, وإن اتخاذ الملابس والتزيُن وستر العورات بها هو من مظاهر رُقي الإنسان وانصياعهُ لطاعة الرحمَن, وإذا كان الله لم يترك الحيوانات بلا كسوة, وجعل لها الوبر والأصواف والجلود والريش والصدف, وما إلى ذلك مما تتجمل به ويقيها بأسها وبأس الطبيعة التي تعيش فيها, كما جعل سبحانهُ  الدواب ذات أربع أرجُل تتوارى عورتها أسفل بطنها وبين قوائمها ولا تبدو ظاهرة جلية للناظرين, فما بالك بالإنسان الذي هو خليفة الله الرحمَن, أليس هو أولى وأحق بالكسوة والتجمُل, وألم يجعل سبحانهُ للإنسان الذي يمشي واقفاً على رجلين عقلاً وحياءً يمنعهُ من كشف عورته التي لا يسترها سوى الكسوة واللباس.
وقد كان أول أدب أدبهُ الله لأول البشر آدم وحواء - عليهما السلام- مرتبط كما فصلنا بعدم نزع ما كساهما الله وستر عوراتهما به من اللباس والزينة.
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 27} الأعراف.

وإن الله يبغض التعري سواءً أكان من الرجل أو المرأة, وجعلهُ سبحانهُ سبباً في زوال النِعم, والهبوط من المقام الأعلى إلى الأدنى, وسلوكاً دالاً على خُلِق العبد ومدى ورعهِ وتقواه, فإنه لا يتعرى إنسان إلا وهو خاضعاً لوسواس الشيطان وغافلاً عن ذكر الرحمَن.
عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: {إياكم والتعري, فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط, وحين يُفضي الرجل إلى أهله, فاستحيوهم وأكرموهم} رواه الترمذي, وقال حديث غريب.
وحتى في حال الجِماع وخلوة الرجل بالمرأة, فإن عليهما أن يتخذا ستراً وغطاءً عن أعين الإنس والجآن, وأن لا يتكشفا ويلبثا ويباتا عُراةً لا يكسوهما سوى جلودهما, فلعلهُ يقتحم خلوتهما أحداً فلا يجدا أن يستترا, أو لعلهما وهما في حال لهوٍ وغفلة عن ذكر الله, أن تسترق الشياطين النظر إلى عوراتهما وتصيبهما بمس ٍ وأذى, أو لعلهما يُصابا بشيءٍ من التوعك والمرض, فإن الله لم يجعل لبني آدم ما يقيه بأس الطبيعة كما جعل للدواب والحيوانات.
عن عتبة بن عبد السلمي, أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: {إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين} (15). العيرين: الحِماريْن.

وقد أغلظ الله على من يتعرون من لباسهم وأخزاهم و وبخهم توبيخاً كبيراً, وإذا كان التعري ونزع اللباس سبباً في الخروج من الجنة, فإنهُ كذلك سبباً مُباشراً في المنع من دخولها والإبعاد عنها بُعْداً كبيراً.
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : {صنفان من أهل النار لم أرَهُما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رءوسهن كأسنمة البُخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}. قيل إنها مسيرة خمسمائة سنة .
ولما كانت المرأة ممثلة بأمنا حواء هي أول مُتلبس ٍ بفتنة نزع اللباس وداعياً إليها بعد إبليس, وسبباً في فتنة آدم وخروجهم من الجنة, فقد كان التشدد الإلهي في جنبها وتوعدها بالحرمان من الجنة أمراً لا بد منه.
عن محمد بن قيس, قال: (نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة ، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء ، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال : " ما نهاكما رَبُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " . قال : فقطعت حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما : ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ) [سورة الأعراف : 22]. لم أكلتها وقد نهيتك عنها ؟ قال : يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء : لم أطعمته ؟ قالت : أمرتني الحية. قال للحية : لم أمرتِها ؟ قالت : أمرني إبليس. قال : ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن في كلّ هلال ، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك ، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ} (16).
عن ابن عباس ، قال : {لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : حواء أمرتني! قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْهًا ، ولا تضع إلا كرها. قال : فرنَّت حواء عند ذلك ، فقيل لها : الرنّة عليك وعلى ولدك} (17). الرنة: الصيحة الحزينة عند البكاء.

ولما كان إبليس يجدُ مشقةً في فتنة آدم – عليه السلام- وجرهِ للمعصية, فقد عَمَد إلى إغراء حواء بالمعصية لعلمهِ بضعفها وأنها أقلُ حرصاً على الطاعة من زوجها, حتى إذا ما نجح في فتنتها استخدمها كورقة رابحة في زيادة الضغط على آدم وحملهِ على المعصية, لذا أُثِرَ أن النساء هُنَ حبائل الشيطان, وقال سعيد بن المسيب - رضي اللهُ عنه- : (ما أيِسَ إبليس من أحد إلا وأتاهُ من قِبل النساء) .     

وكما كانت المرأة هي أول فتنة لأول البشر آدم –عليه السلام-, فإنهن كُن كذلك أول فتنة لأول وأكبر الأمم الكتابية السابقة بني إسرائيل, عن أبي سعيدٍ الخدري – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: {إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله مستخلفكم فيها, فينظر كيف تعملون, فاتقوا الدنيا واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} رواه مُسلم في الصحيح.

وبالقياس لما يتسبب به تبرج المرأة وتعريها من دعوة إلى الخطيئة واستحلال لمحارم الله,  فقد نبه الله في شرائعه التي أرسل بها أنبياءه على وجوب التزام المرأة الحشمة والرزانة في ظاهرها وباطنها, واتخاذها من الألبسة ما تستر به زينتها وسائر جسدها, قال تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظنَ فروجهن ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها, وليضربن بخُمُرهنَ على جيوبهن, ولا يُبدين زينتهن إلا لبُعُولتهنَ..} [النور, 31].

وللأسف فقد فشا في هذه الأمة منذ فترة ليست بالقصيرة العُري ونزع لباس الدين والدُنيا, وها هي أمتنا آخذة في التدحرج نحو الهاوية, وإننا لا نجدُ أبناء الأمة وشعوبها يزدادون إلا تعرياً ونزعاً للباس الحياء والدين, ولا تزداد الأمة معهم بذلك إلا تفككاً وخُسراناً وانحطاطاً في سائر شؤونها, ولا بد لكل بداية من نهاية, وهاهي ملامح نهاية آخر أمم الله في الأرض تبدو أكثر جلاءً ووضوحاً يوماً بعد يوم, نسأل الله العافية وحسن الخِتام.

وفي ختام هذه الفقرة, فإن ابن آدم في حالة عُريهِ إن كان عديم الخجل والحياء من الناس فهذه مصيبة, ولكنهُ إذا كان عديم الحياء من ربهِ وبارئه فالمصيبة أعظمِ, عن معاوية القشيري: {قلت: يا نبي الله ! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قلت : يا رسول الله ! إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال : " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يراها " قال : قلت يا نبي الله ! إذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : " فالله أحق أن يستحيا منه من الناس " } حديث حسن صحيح (18).

مسائل ولطائف منوعة

* إذا كان آدم وحواء لم يريا عوراتهما ولم يعرفا أن لهما عورة إلا بعد إتيان الخطيئة, فكيف كانا يُخرجا فضلات طعامهم وشرابهم؟
إن هذه من الجُزئيات التي لم تتطرق إلى كيفيتها الروايات ولا يلزمنا الخوض بها, إنما أردت ذكرها تحسباً لأن تخطر ببال بعض القراء.
وكما جاء في الروايات فإن الله كان قد ستر عورات آدم وحواء بكساء من نور أو ظُفر أو غيره, ولما كان الله قد كساهم ذلك اللباس وأمرهما بعدم نزعه, فإنه سبحانهُ لا بُد أنهُ كفاهما الحاجة إلى نزعه وصرف عنهما شر ما قد يجدونه من غائط أو بول, تماماً كما كان قد تكفل لهما بطعامهما وشرابهما في تلك الجنة دون جُهدٍ أو عناء بجمعه.
ومن ناحيةٍ أخرى فأن أهل الجنة تكون فضلات طعامهم على هيئة عرق يخرج من تحت جلودهم ريحهُ أطيب من المسك, وهذا افتراض صحيح ولكن على أساس أن آدم وزوجه كانا في ذات الجنة التي وعد المتقون بعد يوم القيامة, ولكن كما ذكرت فإن حقيقة الجنة التي سكنها آدم وحواء أمرٌ مختلفٌ فيه, ولم يذكر الله من وصفها إلا أنها ذات عيش ٍ رغيد لا برد فيها ولا ظمأ ولا حرَ ولا جوع.
والأرجح هو أن الجنة التي سيغرس شجرها ويبني قصورها ويعطي مهر حُورها عباد الله بأعمالهم وجهادهم وصبرهم على مصائب الدهر, والتي سيدخلونها بعد ابتلاءاتٍ شديدة في حياتهم الدنيا وفي برزخ القبور ثم في يوم الحساب, بما تحملهُ هذه المراحل من مخاض ٍ عسير وتقلباتٍ شتى, ثم ليخلدوا فيها إلى أبد الآبدين, لا بُد أنها تختلف اختلافاً بائناً وكبيراً عن تلك الجنة المؤقتة التي دخلها آدم وحواء من باب إكرام الضيف, وهي جنة كما وصفها الرحمَن عرضها كعرض السماوات والأرض, فيها ما لا عينٌ رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.

* ما هي الكلمات
قال تعالى: {فتلقى آدم من ربهِ كلماتٌ فتاب عليه. إنهُ هو التواب الرحيم 37} البقرة.
والكلمات التي أوحى الله بها إلى آدم –عليه السلام- لتكون لهُ نوراً وبيان هي قوله تعالى: {قالَ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرَجون 25} الأعراف. وهذه الكلمات الثلاثة تُمثل الخطوط الأساسية والعريضة لحياة آدم وذريتهُ القادمة على الأرض, وعلمهُ الله فيها الحياة والموت والنشور. وهكذا فإن توبة الله على آدم – عليه السلام- بعد معصيته هي تكليمهُ بالقول الإرشادي الذي ليس فيه سخطاً مُطلقاً أو رحمةً مُطلقة, وعلامات هذه التوبة تتمثل في إعطاء آدم – عليه السلام- عهد جديد, وحياة جديدة على الأرض وفق معايير وشروط واضحة ومختلفة عما كان عليه الحال في الجنة.
وسبب توبة الله على آدم –عليه السلام- وإعطاءه فرصة ثانية لإثبات طاعته وولائه لربه, هو أنه اعترف بخطئه واسترجع, قال تعالى:{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَ من الخاسرين 23} الأعراف.
قال أبو جعفر الطبري: [وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن آدم وحواء فيما أجاباه به ، واعترافِهما على أنفسهما بالذنب ، ومسألتهما إياه المغفرة منه والرحمة ، خلاف جواب اللعين إبليس إياه.
ومعنى قوله : (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) ، قال : آدم وحواء لربهما : يا ربنا ، فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك ، وبطاعتنا عدوَّنا وعدوَّك ، فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه ، من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها (وإن لم تغفر لنا) ، يقول : وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا ، وتترك فضيحتنا به بعقوبتك إيانا عليه  " وترحمنا " ، بتعطفك علينا ، وتركك أخذنا به (لنكونن من الخاسرين) ، يعني : لنكونن من الهالكين].
ولكن توبة الله على عبده ليست فقط بالاستغفار والكلام, وإنما لها ثمن وقُربان لا بد أن يُدفع لقبولها, وكان الثمن الذي دفعهُ آدم وزوجه هو خروجهما من الجنة وهبوطهما إلى الأرض, وقضاء الله عليهما بالموت في الأرض, ثم بالخروج منها بعد الموت للحساب, وكل هذه الأشياء ما كانت لتقع لهما لو أنهُما لزما أمر الله ولم يأكلا من الشجرة.

ثم أوحى الله إلى آدم دستوره الجديد ولذريتهُ أجمعين, والمتضمن سبيل الخروج من الشقاء إلى النعيم, وأنهُ لا يخْلُد في العذاب والجحيم سوى الكافرين والمُكذبين من أتباع إبليس اللعين, قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً, فإما يأتينكم من هُدىً فمن تَبِعَ هُداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون 38 والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 39} البقرة.  
وإن القرآن يُفسر بعضهُ بعضاً, وإن قول الله تعالى في الآيتين رقم 36 من سورة البقرة و24 من سورة الأعراف متشابه تماماً باللفظ : {اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو, ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين}.
والآية التالية من سورة البقرة قال الله فيها : {فتلقى آدم من ربهِ كلماتٌ فتاب عليه. إنهُ هو التواب الرحيم 37}, والآية التالية من سورة الأعراف فيها قول الله عز وجل: {قالَ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرَجون 25}, وهذه هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه والمُشار إليها في الآية 37, وما جاء من بيان في الآيتين 38 و39 من سورة البقرة هو تتمة هذه الكلمات.

* قال تعالى :{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31  قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32 قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ 33} سورة البقرة .
لقد اختلف أهل العلم في نبوة آدم –عليه السلام- وعصمته, ولا أريد الخوض في تفصيل هذه المسألة ها هنا, ولكن كفى بأن آدم – عليه السلام- هو أول الخَلق ِ أجمعين, وهو الذي علمهُ الله الأسماء وخرت لهُ الملائكة ساجدين, وهو الذي اسكنهُ الله وزوجه جنة النعيم, وكتب عليه ذنبهُ قبل أن يخلقهُ بأربعين, وهو أول خليفةً في الأرض, وأول مُسْتشفَع في يوم الدين.  

قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل ٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً 33} الفرقان.
أحسن تفسيراً: أصدق بياناً وتفصيلاً.
وفي ختام هذا البحث, أرجو أن أكون قد وُفقت إلى شرح ٍ وافي وشافي يفُسر حقيقة الخطيئة التي ارتكبها أبوانا آدم وحواء – عليهما السلام- وأُخرجا من الجنة بسببها,
وأعتذر عن أي قصور أو تقصير أو خطأ خطتهُ يميني رغماً عني ودون قصدٍ مني.
وإن ما ذكرتهُ في هذا البحث من حقائق وتعليقات حول شجرة الخطيئة هو اجتهاد يحتمل الخطأ والصواب, ولولا أنني وجدت فوائد معرفية مترتبة على البحث في هذه المسألة, لما تحملت عناء الخوض فيها وتدوينها ونقلها للناس, خاصة ً وأنني بالكاد أجد السويعات من الأوقات لممارسة هوايتي المفضلة في البحث والتدوين في مسائل الدين, نظراً للارتباطات والانشغالات المتزايدة في وظائف الدنيا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على خير ولد آدم نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وأحبابه أجمعين.

فكرة وإعداد: م. وليد أحمد القراعين
نُشر لأول مرة في مدونة المسبار السحري بتاريخ 29-7-2011

الجزء الأول على الرابط أدناه:

هل أدلكم على شجرة الخلد ؟! الجزء الأول


الهوامش:
15- رواه الشوكاني في (نيل الأوطار) وقال حديثٌ صحيح.
16- تفسير الطبري: الخبر 752.
17- تفسير الطبري: الخبر 14410.
18- رواه الترمذي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم من الأئمة.

المراجع:
- كتاب: جامع البيان في تأويل القرآن, المشهور ڊ (تفسير الطبري), تحقيق: أحمد محمد شاكر.
- كتاب: مختصر تفسير ابن كثير, للصابوني.
- موقع الدُرر السُنية, (الموسوعة الحديثية). 

هناك تعليقان (2):

  1. إرشادات للقراء والمعلقين :
    1- الرجاء قراءة الإدراج بعناية وتركيز قبل التعليق عليه.
    2- إن هذا الإدراج هو نتاج اجتهاد شخصي بحت , فما كان فيه من خيرٍ وصواب فهو من توفيق الله , وما كان فيه من شرٍ وأخطاء فهو من نفسي.
    3- أرحب باقتراحاتكم ونقدكم البناء , والرد عليها سيكون على هذه الصفحة بإذن الله .
    سيتم نشر التعليق بعد موافقتي عليه.
    للتواصل عبر موقع facebook:
    http://www.facebook.com/wkaraeen

    ردحذف
  2. ربي يفتح عليك ...شاب ملهم ربي يزيدك من علمه
    كل بحوثك ارجوا ان تبعثها لي
    لاني باخد منها بدرسي

    ردحذف