الجمعة، 22 مارس 2013

فلسطين الوليدة وغزة المؤودة ج1


   بسم الله الرحمَن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد؛

[كان هيرودوتس وغيره من كتّاب اليونانية واللاتينية، هم الذين أطلقوا اسم فلسطين على أراضي الساحل الفلسطيني، وفي بعض الأحيان كانوا يشملون بالاسم أيضا تلك الأراضي الواقعة بين الساحل ووادي الأردن. وفي مستهل عهد الإمبراطورية الرومانية، أطلق اسم فلسطين على المنطقة الواقعة حول القدس، كما استخدم الاسم نفسه أيضا زمن البيزنطيين للتدليل على الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن، والممتدة بين جبل الكرمل وغزة في الجنوب.
وعلى ما يبدو استعار هيرودوتس هذا الاسم من اسم "پلشت" الذي أشار إلى الساحل الجنوبي ما بين يافا ووادي العريش حيث وقعت المدن الفلستينية. وكان الفلستينيون من شعوب البحر ومن أبرز الشعوب التي عاشت في منطقة فلسطين من القرن ال12 ق.م. ولمدة 500 عام على الأقل] (1).

هذا هو التعريف التاريخي لاسم فلسطين, وفي هذا المقال فإنني سأعمل على إعادة تعريف اسم (فلسطين) من خلال تحليل لفظه وحروفه, وذلك باستخدام طريقتي وأسلوبي الخاص في تحليل الأسماء, على غرار المقالات السابقة, ولنصل في النهاية إلى استنباط معاني ومفاهيم جديدة لاسم هذه الدولة الفلسطينية الفريدة.

قال تعالى :{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 30 وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31  قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32 قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ 33} سورة البقرة . 
  
فلسطين الوليدة
رغم اختلاف اللفظين إلا أن اسم فلسطين بعد قسمهِ إلى نصفين يصير فيه شبه من اسمي (وليد), وكل ما نحتاجه لاستنباط هذا الشبه الفريد هو إجراء تعديل بسيط على الاسم, وذلك بنقل الحرف الرابع من اسم فلسطين (حرف الطاء) إلى أولها لتصبح (طفلسين). ثم نقوم بتقسيم الكلمة الناتجة (طفلسين) إلى قسمين متساويين:

فلسطين = طفلسين = طفل + سين .

ومن خلال القسم الأول الناتج من معادلة اسم (فلسطين) وهو كلمة (طفل), سوف نحصل على بيت القصيد وهو اسم (وليد).
* طفل: كلمة تشبه بالمعنى اسم (وليد), وكلاهما يستخدم لغةً للتعبير عن نفس المرحلة العمرية, وهي مرحلة ما بعد الولادة إلى ما قبل البلوغ.

وللتأكيد على صحة إعادة ترتيب وتقسيم حروف اسم (فلسطين), نقوم بحساب مجموع أعداد حروف كلا القسمين الناتجين, وذلك باستخدام قاعدة حساب الجُمل المشهورة بين المشتغلين بحساب الأوفاق, على النحو التالي:
فلسطين = طفلسين = طفل + سين .

طفل:  ط (9) + ف (80) + ل (30) = 119.
سين: س (60) + ي (10) + ن (50) = 120.
  
ويتبين لنا من هذا الحساب أن مجموع أعداد حروف كلاً من القسمين على التوالي يمثل رقمين متتابعين في سُلم الأعداد هما: (119, 120), مما يدل على صحة التعديل الذي أجريناه على اسم (فلسطين).
فلسطين = طفلسين = طفل + سين = 119 + 120.

الوليد .. موسى و فرعون
وبعد تحليلنا للفظ وحروف اسم (فلسطين), سوف انتقل الآن إلى تحليل لفظ وحروف اسم (وليد), لنصل إلى دلالتين متناقضتين يكمنان فيه لهما ارتباط بواقع فلسطين:
عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -, قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم قبض من طينته قبضتين, قبضة بيمينه وقبضة باليد الأخرى, فقال للذي بيمينه هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي, وقال للذي في يده الأخرى هؤلاء إلى النار ولا أبالي, ثم ردهم في صلب آدم فهم يتناسلون على ذلك إلى الآن } (2).

وليد = ولي + د

ولي: الولي اسمٌ من أسماء الله الحُسنى ومعناهُ : المتولي أمر عبادهُ بالحفظ والتدبير , ينصُرُ أولياؤه , ويقهر أعداءه , يتخذ المُؤمن ولياً فيتولاهُ – سبحانهُ- بعنايته , ويحفظهُ برعايتهُ , ويختصهُ برحمته.
د: حرف الدال, وفيه تكمن الدلالتين المتناقضتين, وذلك أن حرف الدال هو أول حرف من كلمة (دين) ويدل عليها, وكذلك أول حرف من كلمة (دنيا) ويدل عليها.
وهكذا فإن اسم (وليد) بشقيه (ولي + د), إما أن يفيد معنى (ولي الدين) أو (ولي الدنيا). وإن كلاً من هاذين المعنيين ينطبقان على رجُلين يُشكلان علامتين فارقتين في التاريخ, يُقال أن اسمهما كان (وليد).

الرجل الأول والذي ينطبق على شخصيته معنى (ولي الدين) هو كليم الله وإمام بني إسرائيل موسى (عليه السلام), قال تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظُلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله. إنَ في ذلك لآياتٍ لكلِ صبارٍ شكور 5} سورة إبراهيم.
وقد سبق أن بينت في بحثي السابق (الوليد ابن عمران موسى عليه السلام), الدلالات والدراسات التي تشير إلى أن جوهر ومعنى اسم موسى هو (الوليد), ومن ضمن ذلك هو أن: [(موسى) لفظة في المصرية القديمة منحوتة من جذر في تلك اللغة، هو ( م / س / ى )، فعل بمعنى ولد / يلد / ولادة . ولفظة (موسى) اسم مشتق منه على زنة المفعول ، فمعناها ( ولد ) أو (وليد ), وهو الأقرب.. وإن لفظة (وليد) لن تجدها في القرآن كله إلا في هذه الآية فقط, قال تعالى: {قال ألم نُرَبِكَ فينا وليداً} آية 18, الشعراء. ولفظة (وليد)  هنا تعود على موسى (عليه السلام) ..].

وأما الرجل الثاني والذي ينطبق على شخصيته معنى (ولي الدُنيا) أو بالعامية (ولي النِعَم), فهو عدو الله وإمام الكافرين فرعون (عليه اللعنة), قال تعالى: {ونادى فرعون في قومهُ قال يا قوم أليس لي مُلك مِصر وهذه الأنهار تجري من تحتي, أفلا تبصرون 51} سورة الزخرف.
وقد جاء في كتاب مختصر تفسير ابن كثير, الآية 49 من سورة البقرة ما نصه: [(فرعون) علمٌ على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم, كما أن (قيصر) علمٌ على كل من مَلك الروم مع الشام كافراً, و(كسرى) لمن ملك الفرس. ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام (الوليد ابن مصعب بن الريان) فكان من سلالة عمليق, وكنيتهُ أبو مرة, وأصلهُ فارسي من اصطخر]. ويقودنا هذا التفسير إلى فهمٍ أعمق لغرض الوليد فرعون من قوله للوليد موسى عليه السلام : {ألم نربك فينا وليداً} [الشعراء 18], وكأن فرعون يريد بقولهِ هذا أن يَمُنَ على موسى عليه السلام ليس فقط في تربيته في قصره, ولكن أيضاً بتسميتهِ باسمه (الوليد), وهو الاسم الذي اختارتهُ لهُ ابنة فرعون بعد أن التقطته من الماء.
وسواءً صَحت هذه الرواية أو لم تصح فإن الفرق بين الوليدين كالفرق بين آية الليل وآية النهار, فقد كان فرعون وليد حقدٍ وجهلٍ وكفر, بينما كان موسى (عليه السلام) وليد محبةٍ وحكمة ونبوة, وقد فَرَقَ اللهُ بينهما تصديقاً لهذا الفرق الشاسع في الإيمان فجاوز بموسى (عليه السلام) البحر وأغرق فرعون.

فلسطين.. موسى و فرعون
كما اسم (وليد), فإن اسم (فلسطين) يجسد لنا دلالات مباشرة وغير مباشرة مرتبطة بالخصمين اللدودين موسى و فرعون.
فمن الناحية اللفظية فإن الحرف الثالث من (فلسطين) هو أيضاً الحرف الثالث من اسم (موسى) أيضاً, وهو حرف (السين). وكذلك فإن الحرف الأخير من (فلسطين) هو أيضاً الحرف الأخير من اسم (فرعون), وهو حرف (النون).

وأما الدلالات الخفية والأسرار الكامنة, فإننا نستخرجها من خلال تحليل اسم (فلسطين) كما في المعادلة السابقة, وذلك بإعادة ترتيب حروفه وتقسيمه على النحو التالي:
فلسطين = طفلسين = طفل + سين = طفل + سي + ن

* طفل: كلمة تشبه بالمعنى اسم (وليد), وكلاهما يستخدم لغةً للتعبير عن نفس المرحلة العمرية, وهي مرحلة ما بعد الولادة إلى ما قبل البلوغ.
* سي: لفظة تشبه لفظ كلمة Sea الإنجليزية ومعناها (بحر).
* ن: حرف النون, ورمزه العددي بحسب علم حساب الجُمَل هو (خمسين), وهو نفس مجموع إعداد حروف اسم (وليد), [وليد = و: 6 + ل: 30 + ي: 10 + د: 4 =50].
وعند تعويض معاني هذه المقاطع في معادلة (فلسطين) فإنها تصبح كما يلي:

فلسطين = طفلسين = طفل + سين = طفل + سي + ن = وليد + بحر + وليد

إذن فإن اسم (فلسطين) قد انطوى فيه اسم (وليد) مرتين:
الأولى بالمعنى من خلال كلمة (طفل), وهذا على الأغلب يدل على (موسى) عليه السلام لذكره به في القرآن, قال تعالى: {ألم نربك فينا وليداً}, أي طفلاً صغيراً.
والمرة الثانية بالعدد من خلال حرف (النون), وهذا على الأغلب يدل على (فرعون), لأن حرف النون هو الأخير في معادلة اسم (فلسطين), وهو أيضاً الحرف الأخير في (فرعون).

وقد توسط (البحر) بين دلالتي اسم (وليد), وإن في هذا تجسيد لدور البحر الذي كان بمثابة الوسيط بين الوليدين (فرعون بن الريان) و (موسى ابن عمران).
إذ أوحى الرحمن إلى أم موسى (عليه السلام) وهو طفلٌ رضيع أن اقذفيه في اليم, حتى يحملهُ الموج ويصل به إلى شاطئ قصر الملك فرعون. قال تعالى: {إذ أوحينا إلى أُمكَ ما يوحى 38 أن اقذفيهِ في التابوت فاقذفيهِ في اليم فليُلقهِ اليمُ بالساحل يأخُذهُ عدوٌ لي وعدوٌ لهُ. وألقيتُ عليك محبةً مني ولِتُصنعَ على عيني 39} سورة طه.

وكما أن الله سبحانهُ قد سخرَ البحر ليكون الوسيلة التي جمعت بين موسى وفرعون في أيام ولادة موسى (عليه السلام), فإنهُ عز وجل قد سخر البحرَ أيضاً ليكون الفيصل والوسيلة التي تُفرق بينهما وذلك في أيام غرق وهلاك فرعون وهامان.
قال تعالى: {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسرِ بِعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دَرَكاً ولا تخشى 77 فأتبعهم فرعونُ بجُنودهِ فغشيهم من اليم ما غشيهم 78 وأضلَ فرعونُ قومهُ وما هدى 79} سورة طه.

عن أنس بن مالك – رضي الله عنه - , قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {إن الله عز وجل قبض قبضة فقال : في الجنة برحمتي ، و قبض قبضة فقال : في النار و لا أبالي } صحيح الألباني.
وإن لسان حال فلسطين اليوم كما اسمها يروي لنا قصة موسى وفرعون, وإن أهل هذه الأرض المُباركة ومن عليها يحيوْن في مُعسكرين مختلفين, ويسيرون ويحثون الخُطى في طريقين متعاكسين:
الطريق الأولى: هي طريق (ولي الدين) ووليد الإيمان موسى عليه السلام, وهي طريقُ الهُدى والنبوة والرسالة الربانية, والتي رغم وعُورتها ومشقتها في الدنيا إلا أن سالكيها سوف يصلون في نهاية هذا السيق بما فيه من ضيق إلى جنات النعيم خالدين فيها ومُستريحين, وهم المؤمنين بالله, المتبعين لآياته, والصابرين على ابتلاءاته, والثابتين على منهجه القويم من أبناء الشعب الموسوي المُستضعفين والمقهورين
الطريق الثانية: هي طريق (ولي الدنيا) ووليد الشيطان فرعون عليه لعنة الله ومن والاه, وهي طريق الضلالة والكفر والرسالة الشيطانية, والتي رغم سُهولتها ويُسرها في الدنيا إلا أن مُتبِعِيها سوف يصلون في نهايتها إلى نار الجحيم خالدين فيها ومُعذبين, وهم الكافرين بالله, والمتبعين للشيطان, والجاحدين بنِعَمةِ المَنَان, ممن زلة أقدامهم عن طريق الجِنان من أبناء دولة فرعون وآله المُتكبرين اللئام.

وإن نهاية هذان الطريقان نعرفها من كلام الله الرحمَن في هاتان القصتان من سورة القصص:
قال تعالى: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ 38 وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ 39 فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 40 وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ 41 وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ 42 وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 43}.

وقال تعالى : {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم, وآتينهُ من الكنوز من إنَ مفاتحهُ لتنُوأُ بالعصبةِ أولي القوة إذ قال لهُ قومه لا تفرح إن الله لا يُحبُ الفرحين 76 ... فخسفنا بهِ وبدارهِ الأرض فما كان لهُ من فئةٍ ينصرونهُ من دون الله وما كان من المنتصرين 81 وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْ كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْ كَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ 82 تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83}.

وفي الختام, فإنه وعلى مر الزمان تبقى المعاناة والعذاب والحرمان الذي تعرض لهُ موسى (عليه السلام) وقومهُ مثلاً وعبرةً لجميع الشعوب والأقوام المُعذبة والمحرومة, وإن تعرُض موسى (عليه السلام) مع قومهِ لتلك المأساة الإنسانية العظيمة كان أمراً مُقدراً ومكتوباً عليهم, وكيف لا وحروف كلمة (مأساة) الأساسية قد انطوت في اسم (موسى) وتطابقت معه.
حيثُ أن الحروف الثلاثة (م, س, ا) هي على الترتيب (أول وثالث ورابع) حرف في لفظ (مأساة) وكذلك في لفظ (موسى).

مقام كليم الله موسى عليه السلام
إن ارتباط شخصية نبي الله موسى (عليه السلام) ڊِ (فلسطين) لا يقتصر على الدلالات الحرفية الخفية, أو مشاركة الشعب الفلسطيني المُسْلم بمأساتهِ الإنسانية, وإنما ثمة هناك دلالات أُخرى تاريخية واجتماعية نتعرف عليها من خلال الفقرة التالية:
عن أبي هريرة رضي الله عنهُ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم : ({كان ملك الموت يأتي الناس عيانا فأتى موسى عليه السلام فلطم عينه ففقأها – أي موسى فقأ عين المَلك- فرجع – الملَك- فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت, فرد الله عليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقل له: فليضع يده على ثور فله بكل شعرة وارت كفه سنة يعيشها فأتاه فبلغه ما أمره, فقال: ثم ماذا بعد ذلك ؟ قال الموت, قال -موسى- : يا رب فالآن. وقال: رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر} صحيح.

[تملك قرية سلوان جزءاً كبيراً من الأراضي المشاع الواقعة بين القدس والبحر الميت، وأهمها منطقة السهل الأحمر الواقعة اليوم على طريق (القدس - أريحا، والتي عرفت تاريخياً بخان السلاونة أو (الخان الأحمر).
وقرب الخان الأحمر يقع مقام ديني وتاريخي يُنسب إلى نبي الله موسى (عليه السلام), والذي تم تشيده في أعقاب تحرير الشام وبيت المقدس من الاحتلال الصليبي.
وعندما مر صلاح الدين الأيوبي في هذا المكان لم يكن المقام موجودا بالطبع، وحسب المرويات انه وجد في المكان بعض الأعراب يقيمون حول قبر، فسألهم عن هوية صاحبه، فقالوا له بأنه لكليم الله موسى، فشرع ببناء المقام. وأتم الظاهر بيبرس القائد المملوكي المهمة ببناء المسجد والأروقة عام 1265م، وأوقف عليه الكثير من العقارات والأراضي، ولم تتوقف عمليات إعماره والإضافة إليه حتى العهد العثماني.
ويُعتبر موسم النبي موسى جزء من تراث مدينة القدس الديني والشعبي، يحتفل به الفلسطينيون منذ ما يقارب التسعة قرون، والذي يعتبر مع مواسم أخرى مثل مواسم النبي صالح قرب رام الله، وموسم النبي روبين قرب الرملة، من المواسم التي استحدثت زمن صلاح الدين الأيوبي في نفس الفترة التي تقام فيها أعياد الفصح المسيحي. حيث كانت وفود المناطق الفلسطينية في السابق، تصل إلى القدس قبل أيام من بدء الموسم، وتتجمع في البلدة القديمة وتخرج منها في احتفالات رسمية وشعبية كبيرة ترفع البيارق.

وأود هنا التنويه إلى أنهُ لا يوجد دليل من السُنة النبوية يُحدد بشكل قاطع البُقعة التي دُفِنَ فيها نبي الله موسى, وللناس اجتهاداتٌ في هذا الشأن رجوعاً إلى الروايات التاريخية والدينية, ويسود اعتقاد بأن كليم الله موسى (عليه السلام) مات ودُفن في مدينة مأدبا الأردنية ذات التربة الحمراء كالحِناء, وتحديداً على جبل نبو أحد مرتفعات جبال مؤاب.
وقد جاء في التوراة هكذا: ((اصعد إلى جبل عباريم، هذا جبل نبو الذي في أرض موآب الذي قباله أريحا)).
وفي الأيام الصافية يستطيع المرء من على قمة جبل نبو أن يرى بالعين المجردة البحر الميت وجبال البلقاء وكل فلسطين بما فيها قبة مسجد الصخرة والمسجد الأقصى وأبراج الكنائس في مدينة القدس وشواطئ البحر الأبيض المتوسط وجنوب لبنان وجبل الشيخ شمالا حتى جبال سيناء جنوبا. وهو الوجهة المفضلة لدى الحجاج اليهود القادمين من حول العالم لإيمانهم أن قمة الجبل تضم رفات النبي موسى عليه السلام] (3).

فلسطين (وليد) و إسرائيل (يعقوب)
إذا كان اسم فلسطين له ارتباط خفي وغير مباشر باِسمِ نبي ٍ قوي ٍ أمين هو موسى ابن عمران, فإن اسم دولة إسرائيل له ارتباط معروف ومباشر بلقب نبي ٍ صبورٍ كريم هو يعقوب (عليهما السلام). وقد جاء في الروايات الإسرائيلية أن الله أطلق على يعقوب عليه السلام لقب (إسرائيل) على لسان الملاك الذي دفعهُ الله لمصارعته واختبار جهاده وصبره, وقد اجتاز يعقوب (عليه السلام) الامتحان بنجاح وعجز المَلك عن صرعهِ وقهره.
وبعد هذا الامتحان والتجربة الملائكية, كان على يعقوب (عليه السلام) مواجهة الامتحان والتجربة الحقيقية, والتي تمثلت بفقدان فلذة كبده وقُرة عينه ابنه يوسف (عليه السلام), وقد اجتاز نبي الله يعقوب أيضاً هذا الصراع والامتحان بنجاح, وتسلح بالإيمان والصبر الجميل على فراق ولده الحسن الجميل, وأمضى الليالي والسنين الطويلة ينتظر موعد اللقاء من جديد بولده يوسف دون أن يتسرب إلى نفسه اليأس من رحمة الله والشك بصدق وعوده لمن والاه.

ورغم أن اسميْ (إسرائيل وفلسطين) غير متجانسين في اللفظ والمعنى, إلا أن اسميْ (يعقوب ووليد) المرتبطان بهما متجانسين على الأقل في المعنى.
حيثُ أن اسم يعقوب مُشتق من (العَقِب), والعَقِب هو ولد الرجل وذريته, بينما اسم وليد بحد ذاته يدل عل الولد والمولود والذُرية, وقد جاء في الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: {أنا السيد والعاقِب} يعني آخر ذرية آدم من الأنبياء وعقبهم جميعاً (عليهم الصلاة والسلام).  
وكذلك فإن (العَقِب) الذي جاءت منهُ تسمية يعقوب (عليه السلام) هو مُؤخرة القدم, وذلك أن يعقوب عليه السلام خرج من بطن أمهِ (رُفقة بنت بتوئيل) عقباً (تبعاً) لأخيه البكر التوأم عيسو ومُمسكاً بعَقِبِ رجله.
فإذا كان اسم يعقوب عليه السلام فيه دلالة بالمعنى على الأطراف السفلية للجسم وهي (الأقدام), فإن اسم وليد في آخر حرفين منه – يد- دلالة لفظية على الأطراف العلوية للجسم وهي (الأيدي), قال تعالى: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيدي إنهُ أواب 17 إنا سخرنا الجبال معهُ يُسبِحنَ بالعشي والإشراق 18 والطيرَ محشورةً, كلٌ لهُ أواب 19 وشددنا مُلكهُ وآتيناهُ الحكمة وفصل الخطاب 20} سورة ص. ذا الأيدي: ذا القوة في الدين والعبادة.
ورغم أن اسم يعقوب كما ذكرنا مشتق من العقب وهو مؤخرة القدم, إلا أن نبي الله يعقوب هو أيضاً من أولي الأيدي عند ربه عز وجل, { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ 45} سورة ص.

وختاماً فإن الجذر (عقب) الذي اشتُق منه اسم يعقوب عليه السلام هو نفسهُ جذرُ كلمة (عِقاب وعُقوبة), وقد أفلح اليهود إذا اختاروا اسم إسرائيل الذي هو لقب نبي الله يعقوب (عليه السلام) لدولتهم, لأن قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين هو أشبه بالعقوبة الربانية التي حلت بالعرب والمسلمين جزاءً ونكالاً على تركهم لتعاليم الدين وانسلاخهم عن نهج الأولين.           

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                             * فكرة وإعداد: م. وليد الكراعين
نشر لأول مرة في مدونة المسبار السحري بتاريخ 22-3-2009

ملاحظة: هذا الموضوع في الأصل جزء واحد ولكن تم تقسيمه إلى جزئين بسبب كبر حجمه وعدم استيعاب الصفحة له.

المراجع والهوامش
(1) موقع ويكيبديا, (فلسطين).
(2) رواه الهيثمي في (مجمع الزوائد), خلاصة حكم المحدث: فيه روح بن المسيب قال ابن معين‏‏ صويلح‏‏ وضعفه غيره.‏‏
(3) فقرات مقتبسة من موقع ويكيبديا: (سلوان, موسم النبي موسى, جبل نبو).

تتمة هذا المقال على الرابط التالي:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق