الاثنين، 25 مارس 2013

استخلاف البشر بين الخير والشر


   بسم الله الرحمَن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, وتقبل الله طاعة المسلمين, أما بعد؛

[هذا هو البحث الأول الجديد الذي أنشره خلال السنة الشمسية الحالية 2012, مُستفيداً من عطلة عيد الفطر المبارك.
وفي الحقيقة فإني لم أكن أتصور أنني سأتمكن من كتابة ونشر بحث جديد في هذه السنة, أو حتى مراجعة وتصحيح أبحاث نشرتها سابقاً, وذلك بسبب أعباء ومسؤوليات العمل والوظيفة التي تزداد عاماً بعد عام, والتي تتطلب العمل طوال ساعات النهار وجزءاً من الليل, وبالتالي استنفاذ معظم طاقتي وتركيزي بحيث لا يبقى في الوسع سوى صلاة العِشاء وتناول العَشاء والنوم] (1).

وفيما يخص هذا البحث, فإنني سأتطرق فيه إلى تفصيل وتفسير آياتٍ كريمة من كتاب الله , حيثُ أنني في كثيرٍ من المواضيع التي ألفتها وكتبتها ونشرتها على صفحات هذه المدونة, وعلى وجه الخصوص المواضيع التي كانت تتضمن شرحي الخاص لمعاني وخصائص بعض الأسماء, كنت أستشهد بآيات استخلاف الله لآدم في الأرض, واختصاصه بعلم أسماء الأشياء ومعانيها.

 ونظراً لتكراري هذه الآيات في أكثر من موضع, وبالرجوع لما تحتويه هذه الآيات من معاني هامة ومُبهمة لا يمكن إدراكها إلا بالتمعن العميق والاستئناس بأقوال علماءنا الأبرار – رضوان الله عليهم- , ولإزالة الإشكال من عقول وأذهان القراء غير المطالعين لكتب التفسير حول معاني هذه الآيات, فقد رأيت أن أُفرد بحثاً يتعرض لتفسير هذه الآيات وتوضيح معانيها.

وكما في مُعظم مواضيعي السابقة التي تطرقت فيها لتفسير بعض آي الذكر الحكيم, فإن التفسير الذي سوف أورده لهذه الآيات الكريمة سوف يكون مُستمداً من مصدرين, أولهما: كتب التفسير المُعتبرة والمشهورة عند عامة المسلمين, وأما المصدر الثاني: فهو مما يفيء الله به على عبده من فهمٍ لآيات كتابه الكريم وقُدرة على استنباط المعاني واللطائف الخفية الكامنة فيها.

وكما ذكرت مِراراً فإن غالبية التفاسير التي أجتهد في استنباطها وشرحها – ما يصح ويُقبل منها-, إنما هي إضافات وخواطر جديدة وتكميل وتوضيح للتفاسير والآراء الصحيحة التي ذكرها علماءنا الأفاضل السالفين منهم والمتأخرين, وهي ليست بمُستقلة أو خارجة وناشزاً عنها, بحيثُ يُدّعَى أنها الصواب وحدها وما سواها خطأ, وإن من لا يعرف قدْرَ وغزارة علم وحصافة رأي ورجاحة عقول الفحول من أئمة وعلماء الأمة, فإنه ليس على شيء من أمر هذا الدين, ولن يبلغ منه شيء ما دام على سوء ظنهِ بهم وجهله بمقامهم العظيم, وللأسف فقد تعالت في هذا الزمان أصوات الناقدين والمُخَطِئِين والمُسْتخِفِين بمكانة وعلم الصحابة الكرام وعلماء وأئمة الإسلام, وإن مثل هذا التساهُل والاجتراء المُغرض وغير المدروس والبناء على فكر وأقوال وأفعال أوتاد الإسلام, سوف يجُر على أبناء الإسلام في هذا الزمان فتنٌ عِظام وضياع لهيبة علوم السُنة والقرآن, فإنما بهم أقام الله أمر هذا الدين وجمعهُ وحَفِظَه, وبالعدوان على مورثوهم والانتقاص من قدرهم يكون هدم الدين وفُرقة المسلمين وضياع أمرهم.

وعودةً إلى موضوعنا, فإني سأبدأ أولاً في تفسير الآيات الكريمة مما أعانني الله على فهمه, مستشهداً ببعض اللطائف القرآنية من الآيات المتشابهات.

إني أعلم ما لا تعلمون ؟!
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 30} البقرة.
يخبر سبحانهُ وتعالى ملائكته بما قضاه من أمر استخلاف البشر في الأرض, وإن الملائكة يأخذون كل أمرٍ يقضيه تبارك وتعالى بالقبول والانقياد, إلا أن طبيعتها النورانية وانصياعها الكامل لأوامر الله سبحانهُ وتعالى, دعاها إلى الاستفهام وطرح التساؤل عن الغاية من استخلاف هذا المخلوق البشري الذي هو دونهم طاعة وتنزيه وتقديس لله تبارك وتعالى, والذي له طبيعة تحمله على المعصية ونفس تأمره بالسوء, وما سوف يتسبب به ذلك من امتلاء الأرض بالجور والعدوان, وأن الله تبارك وتعالى غنيٌ عن استخلاف مثل هذا المخلوق.

وبعد أن سمع الله مُداخلة ملائكته وما طرحوه من تساؤل, رد عليهم سبحانهُ وتعالى بإخباره لهم أن ما ذكروه من تداعيات سلبية لاستخلاف البشر في الأرض يمثل مخاوفهم وحَدَ ما يستطيعون إدراكه من العلم, إلا أنهم عاجزون عن إدراك قضاء الله النافذ, وحكمته الواسعة, وعلمه المحيط بكل شيء, وأنهُ وحده الخبير بمن خلق, ولماذا خلقهم, وبما ستؤول إليه الأمور في منتهاها, وأن كل شيءٍ عنده بمقدار, وأنهُ يضع الموازين القسط ليوم القيامة, اليوم الذي يفنى به كل خلق ٍ أحدثهُ الله حتى الملائكة, ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام, وأن ناموس الكون قائماً ومبنياً على الأضداد, فما من شيء خلقهُ الله إلا وله مثيل أو ضد - إلا هو سبحانهُ وتعالى ليس له مثيل ولا ندٌ ولا ضد-, فجعل الله الخفاء والظهور, وجعل الظلام والنور, وجعل نهمة الملائكة الطائعة لله أبداً من النور, وسيجعل نهمة خلقاً آخرين على الدوام لله عاصين من الظلام, وهم الشياطين, وقد جعل الله البشرُ خلقاً بين ذلك, منهم من هو مائلاً إلى الطاعة والنور, ومنهم من هو زائغاً إلى المعصية والظلام, وأن الذي يجاهد نفسه على الطاعة من البشر هو عند الله كبعض الملائكة أو خيراً منهم, وأن الذين يفسقون من البشر هم عند الله كبعض الشياطين أو شراً منهم, وأنهُ سبحانهُ لا ولن تنفعه طاعة المخلوقات ولا تضرهُ معصيتهم, وإنما جعل الله حياة البشر واستخلافهم في الأرض التي خلقهم من طينها امتحاناً لهم, ليعلم من يشتري نفسه من الله بالطاعة فينجو, ومن يبيعها فيوردها المهالك, فيثيب ويجزي كُلاً بحسب أعماله, لا يظلمهم مثقال ذرة, ولا يبخسهم من عملهم شيئا.

وهناك تساؤل يطرح نفسهُ كلما قرأنا هذه الآية الكريمة, وهو كيف علمت الملائكة بأن الإنسان سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟!
أقول: إن هذا التساؤل يحتمل جوابين, أولهما وهو الأرجح: هو أن الله سبحانهُ وتعالى وفي سياق ذكره للملائكة خبر ما قضاه من استخلاف البشر في الأرض, أنبأهم وعرض عليهم صوراً ومشاهد مستقبلية من هذه الخلافة, فرأت الملائكة من ضمن ذلك الأذى والعدوان والأخلاق الذميمة والأعمال القبيحة التي ستصدر عن كثير من الناس, فيكون علمها بالأمر إن تم بإطلاع الله سبحانه وتعالى لها.
وإن الحكمة من عرض هذا الأمر على الملائكة, هو تهيئتها لما لا عهد لها به من العصيان ودنيء الصفات والأعمال, خاصة ً وأن الله سيوكل إليها مهام رعاية هذه الخلافة والإشراف على إدارة شؤونها, فهم من سينفخون الروح في الإنسان, وهم من سيقبضونها, وهم رُسل الله إلى البشر, وحفظتهم, وكتبة أعمالهم, وغير ذلك مما نعلمه من شأن الملائكة ووظائفهم مع الناس والكون.

وأما الجواب الثاني على التساؤل أعلاه: هو أن الملائكة علمت ذلك بالنور والعقل الذي أودعه الله فيها, وبعلمه المكتوب في اللوح المحفوظ.
فهي تعلم أن هؤلاء البشر المخلوقين من الطين والماء المهين, من طبيعتهم أن يطغى بعضهم على بعض, ويفني بعضهم بعضا, وأن منهم أصحاب القلوب المتحجرة والأفئدة المُظلمة التي لم تُصب نصيباً من النور, فهي في قصور عن معرفة الخالق البارئ وطاعة أمره.
وأن هذا المخلوق الذي يملك – بإذن الله- أن يتناسل ويُكَثر جنسه, يملك في نفس الوقت أن يقتل من بني جنسه ويسفك دماؤهم ويفنيهم, وأنهُ إذ يملك أن يحرث الأرض ويصلحها ويزرعها, فإنه يملك كذلك أن يفسدها ويُتلف ثمرها ويحرق محاصيلها.

وإن هذا القرآن تفُسر آياتهُ بعضها بعضاً, قال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [23, الزمر]. فإذا تأملنا في قصة موسى مع العبد الصالح وهو على الأرجح الخضر عليهما السلام - كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-, فإننا نجد مثالاً متشابه مع الحوار الذي دار بين الله وملائكته في مسألة استخلاف البشر في الأرض.
قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا 65 قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا 66 قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا 67 وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا 68 قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا 69 قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا 70 فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا 71 قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا 72 قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا 73 فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا 74 قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا 75 ...} سورة الكهف.

فرغم علم موسى – عليه السلام- المُسبق بما اختص الله به عبده الخضر – عليه السلام- من العلوم اللدُنية والمواهب الربانية, وأنهُ إنما لحق بالخضر – عليهما السلام- ليتعلم ويكتسب المعرفة منه, ورغم ما أمرهُ به الخضر من وجوب لزومه الصمت وعدم سؤاله عن شيءٍ مما يصنع حتى يبادرهُ هو بالحديث, إلا أن موسى لم يستطع إلا أن يتساءل ويُبدي استغرابه واستهجانهُ لما قام به الخضر – عليهما السلام- من خرق السفينة وقتل الغُلام وإقامة الجدار.
وقد وقفت الملائكة –عليها السلام- موقف موسى إذ أبى عليها فضولها إلا أن تتساءل في حضرة الله الرحمَن عما قضاه من أمر استخلاف الإنسان كثير العصيان, في الوقت الذي كانت هي قائمة بواجب عبادة الله وتقديسه وطاعة أوامره بشكل تام.

وقد كان أول ما احتجت به الملائكة في تساؤلها هو:
- الإفساد: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا.. }.

وقد كان أول ما سأل عنه موسى العبد الصالح الخضر- عليهما السلام- هو خرقه للسفينة, وهو فعل يُعد من التخريب والإفساد, {فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا 71 } إمراً: مُنكراً.

ثم كان بعد ذلك ثاني ما احتجت به الملائكة في جملة التساؤل بعد الإفساد هو:
- سفك الدماء: { مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } ويُراد بسفك الدماء القتل.

وقد كان ثاني ما سأل عنه موسى- عليه السلام- بعد الإفساد في السفينة هو القتل, {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا 74}.

فرد الله على تساؤل الملائكة بقوله: {إني أعلم ما لا تعلمون}, وهذا هو لسان حال الخضر مع تلميذه الجديد موسى – عليهما السلام- : (إني يا موسى أعلمُ من الله ما لا تعلم, وأنى لك أن تطيق السكوت على ما لم تُحط بهِ خُبراً), ولا يبْطُل العجب إلا بمعرفة السبب.

وهكذا شاءت إرادة الرحمَن إزالة الإبهام عن أفهام ملائكته, وذلك بإشهادهم على أن هذا الإنسان الذي علموا أن من شأنه الإفساد وسفك الدماء, هو إذا ما أراد الله اجتباءه وتقريبه في منزلةٍ لا تدركها حتى الملائكة أنفسها.
قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31  قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32 قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ 33}
فلما طلب الله إلى ملائكته أن تذكر أسماءً علمها لآدم –عليه السلام-, عجزت الملائكة عن ذكرها لأنها لا تعلم إلا ما شاء الله لها أن تعلم, فلما ذكر آدم هذه الأسماء أمام الملائكة, علمت الملائكة أن الله يختص برحمته وعلمه وفضله من يشاء, وأن آدم إنما خُلق ليكون خليفة الله في الأرض, فهو مخلوق منها وهي مُسخرة له, وأن وجود صوراً قبيحة ومذمومة لهذه الخلافة, لا ينفي وجود صوراً حسنة ومحمودة لها.

 وعلى الناحية الأخرى, فقد أذِن الله سبحانه لعبده الخضر –عليه السلام- بإزالة الإبهام عن فهم نبيه موسى – عليه السلام-, فأخبره الخضر بدواعي العبث بالسفينة وقد أكرمه أصحابها وحملوه عليها دون أجر, وكذلك العلة من قتل غلامٍ طاهر لم يبلغ الحُلم, ولم يقترف بعدُ خطيئة توجب سفك دمه.
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا  78 أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا 79 وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا 80 فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا 81}.

 فلما عرف موسى – عليه السلام- الحكمة مما أتاه الخضر من إفساد وسفك دماء, أقرَ وسكنت خواطره وأحس بالحرج عما بَدرَ منه من مخالفة لأمر الخضر واستعجال إجابته, وعلم أن ما يراه في الظاهر لا يُعبر في الضرورة عن السبب والسر الكامن.
قال تعالى: { فَضرِب بَيْنهُم بِسور لَّهُ بَاب بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب} [13, الحديد]. سور: حاجز بين الجنة والنار.

مقتبسات من تفسير السلف الصالح:
ولمن يريد الاستزادة من معرفة أقوال كبار العلماء في تفسير الآيات أعلاه في أمر استخلاف البشر, وتفاصيل قصة لحاق موسى بالخضر – عليهما السلام- ومصاحبته فترة يسيرة من الزمان, أسرد فيما يلي مقتطفات من كتاب (تفسير القرآن العظيم), للإمام العلامة ابن كثير الدمشقي – رحمه الله- (2).

سورة البقرة: استخلاف البشر
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) }
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم ، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } أي : واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة ، واقصص على قومك ذلك.
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.
وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم ، عليه السلام ، فقط ، كما يقوله طائفة من المفسرين ، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون [أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم ، قاله القرطبي] أو أنهم قاسوهم على من سبق.
وقد روى السدي ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم ، فقالت الملائكة ذلك. وروى الضحاك، عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا. قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } الآية] وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء ، والصالحون والعباد ، والزهاد والأولياء ، والأبرار والمقربون ، والعلماء العاملون والخاشعون ، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه ، ويقطع تنازعهم ، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر عن تعاطي الفواحش ، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة ، بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم ، وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك ، فأخبرهم الله تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ؛  
وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا ، والدواب ، فقيل : هذا الحمار ، هذا الجمل ، هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وسماء ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجمل، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها : ذواتها وأفعالها ؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر.

سورة الكهف: موسى والخضر عليهما السلام

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)....}.

حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفًا البِكَالِيّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس : كذب عَدُوّ الله ، حدثنا أبي بن كعب ، رضي الله عنه, أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : ["إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فَسُئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يَرُدّ العلم إليه ، فأوحى الله إليه : إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى : يا رب ، وكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتًا ، تجعله بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم. فأخذ حوتا ، فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يُوشع بن نون عليهما السلام ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه ، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جِريةَ الماء ، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوَزَا المكان الذي أمره الله به. قال له فتاه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } قال : "فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا ، فقال : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا }. قال : "فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مُسجّى بثوب ، فسلم عليه موسى ، فقال الخَضِر : وَأنّى بأرضك السلام!. قال : أنا موسى. قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، أتيتك لتعلمني مما عُلِّمت رشدا. { قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } ، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله عَلَّمَكَه الله لا أعلمه. فقال موسى : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } قال له الخضر : { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول - يعني بغير أجرة - ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئًا إمرًا. { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كانت الأولى من موسى نسيانًا". قال : وجاء عصفور فنزل على حرف السفينة فنقر في البحر نَقْرة ، [أو نقرتين] فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه [بيده] فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } ؟! قال : "وهذه أشد من الأولى" ، { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال : مائل. فقال الخضر بيده : { فَأَقَامَهُ } ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ، { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما"].

* { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) }.
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى ، عليه السلام ، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر ، عليه السلام ، على باطنة فقال إن : السفينة إنما خرقتها لأعيبها ؛ [لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } صالحة ، أي : جيدة { غَصْبًا } فأردت أن أعيبها] لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها. وقد قيل : إنهم أيتام.
و قد روى ابن جريج عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي ؛ أن اسم ذلك الملك هُدَدَ بن بُدَدَ.

* { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) }
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جَيْسُور. وفي الحديث عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا". رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، به ؛ ولهذا قال : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } أي : يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
وصح في الحديث : "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له". وقال تعالى : {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة : 216].
وقوله تعالى: { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا } أي : ولدًا أزكى من هذا ، وهما أرحم به منه ، قاله ابن جريج.
وقال قتادة : أبر بوالديه.
وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم. قاله ابن جريح.

* { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) }.
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة ؛ لأنه قال أولا { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } [الكهف : 77] وقال هاهنا : { فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } كما قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } [محمد : 13] ، {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف : 31] يعني : مكة والطائف.
ومعنى الآية : أن هذا الجدار إنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما.
قال عكرمة ، وقتادة ، وغير واحد : كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من الآية ، وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس : كان تحته كنز علم. وكذا قال سعيد بن جبير, وعن أبي ذر رضي الله عنه ، [رفعه] قال : "إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه : لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضَحِك ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله".
عن نعيم العنبري - وكان من جلساء الحسن - قال : سمعت الحسن - يعني البصري - يقول في قوله : { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
وقوله : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته ، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت السنة به. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر لهما صلاح ، وتقدم أنه كان الأب السابع.

وقوله : { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي : هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة ، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ، ووالدي الغلام ، وولدي الرجل الصالح ، { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } لكني أمرت به ووقفت عليه ، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر ، عليه السلام ، مع ما تقدم من قوله : {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }.
وقال آخرون : كان رسولا. وقيل بل كان ملكًا. نقله الماوردي في تفسيره.
وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيًا. بل كان وليًا. فالله أعلم.

قالوا : وكان يكنى أبا العباس ، ويلقب بالخضر ، وكان من أبناء الملوك ، ذكره النووي في تهذيب الأسماء ، وحكى هو وغيره في كونه باقيًا إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك حكايات وآثارًا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث. ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها أحاديث التعزية وإسناده ضعيف.
وقد ثبت أيضًا في صحيح البخاري ، عن همام ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما سمي الخضِر ؛ لأنه جلس على فَرْوَة ، فإذا هي تهتز [من خلفه] خضراء"
والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس ، وهو الهشيم من النبات ، قاله عبد الرزاق. وقيل : المراد بذلك وجه الأرض.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                             * فكرة وإعداد: م. وليد الكراعين
نشر لأول مرة في مدونة المسبار السحري بتاريخ 20-8-2012

المراجع والهوامش
- تفسير ابن كثير.
1- هذه الفقرة ترجع إلى التاريخ الاول لنشر هذا الموضوع على مدونتي القديمة.
2- للمحقق: سامي بن محمد سلامة, الطبعة : الثانية 1420هـ - 1999 م
عدد الأجزاء : 8, مصدر الكتاب : موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف www.qurancomplex.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق