الثلاثاء، 26 مارس 2013

قضاء الله على بني إسرائيل بأقوال الأئمة والدليل ج2

بسم الله الرحمَن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أكرم المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد ؛

أما بعد ؛ هذا هو الجزء الثاني من بحث (قضاء الله على بني إسرائيل بأقوال الأئمة والدليل), حيث كنتُ قد شرعت في مقدمة الجزء الأول في بيان ٍ وشرح ٍ عام للآيات الأوائل من سورة (بني إسرائيل) مُستأنساً بأقوال كبار المفسرين ورواياتهم, ثم بعد ذلك قمت بشرح وتفصيل أوجه التفسير لقضاء الله على بني إسرائيل في العهد القديم وهو (التوراة).

وفي هذا الجزء فإنني سوف أنتقل إلى استكمال بيان أوجه تفسير هذا القضاء, وذلك من خلال العهد الجديد وهو (الإنجيل), والعهد الآخر وهو (القرآن الكريم).
ولكن حتى يحصل الفهم وتتم الفائدة للقارئ فلا بد له من العروج على  قراءة الجزء الأول من البحث, أو على الأقل المقدمة التي توضح المعاني العامة للآيات, والأفكار الأساسية التي يرتكز عليها البحث ومنهجية التفسير التي اتبعتها.

وقد كان هذا البحث فيما سبق مختصراً في جزءٍ واحد أو بالأحرى منشور على صفحة إلكترونية واحدة, ولكن بعد إضافة عدة فقرات والإسهاب أكثر في الشرح والتفسير وزيادة كم المعلومات, وبسبب حدوث أخطاء في الصفحة الإلكترونية بسبب عدد الكلمات الكبير, رأيت أنه من الأنسب تقسيمه وتوزيعهُ على أجزاء,  بحيث يشتمل الجزء الأول على المقدمة والتفسير المرتبط بالعهود القديمة والأزمنة الماضية, وصولاً إلى التفسير المرتبط بالزمان القريب والحالة الراهنة, إلا أن كل الأجزاء في الواقع تمثل بحثاً واحداً متكاملاً بحسب تسلسل المعلومات الواردة فيها.

قال تعالى :{سبحانَ الذي أسرى بعبدهِ ليلاً منَ المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا حولهُ لنريهُ من آياتنا. إنهُ هوَ السميع البصير1 وآتينا موسى الكتاب وجعلناهُ هُدىً لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً 2 ذرية من حملنا مع نوح إنهُ كان عبداً شكوراً 3 وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنَ علواً كبيرا 4 فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا 5 ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا 6 إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا 7 عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا 8} سورة الإسراء.

الإنجيل العهد الجديد
قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ 46} سورة المائدة.
واستكمالاً لشريعة التوراة وتجديداً لها, بعث الله المسيح عيسى ابن مريم متتماً لرسالة موسى ابن عمران, ومبشراً ببعث النبي أحمد العدنان (عليهم جميعاً الصلاة والسلام), وقد دلت عبارات بعض الأناجيل على أن المسيح نُبئ على رأس ثلاثين سنة من عُمره, وجرى على ذلك المؤرخون ومفسرون القرآن الكريم, وقيل أن بعثهُ كان على دم يحيى بن زكريا (عليهما السلام) الذي تسميه النصارى (يوحنا المعمدان), وذلك لأنهُ عَمدَ المسيح في نهر الأردن قبل ابتداء دعوته.
قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ 6} الصف.
ولما بَلغَ المسيح أن يحيى قد قُتل, جهر بدعوته وقام في الناسِ واعظاً (7), لينذرهم من سخط الله وعقوبته لهم على ما ارتكبوه من جرائم وتقصير في حق أنبياء الله وأوليائه, وليُثبِتَ الله به قلوب المؤمنين ويبشرهم بثوابه ونصره لهم, وقد أيد الله عيسى (عليه السلام) بالخوارق والمعجزات التي تُثبت أنهُ نبي مُرسل من عند الله, ولكن كعادة الفاسقين والمُعاندين فإنهم قالوا بعد رؤية الآيات هذا سحرٌ مبين, وذلك لئلا يحملهم الإيمان والتصديق على ترك ما شربتهُ نفوسهم من الشهوات والمُنكرات.

قال تعالى: { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون 52}
ولما أدرك جمعٌ من قادة بني إسرائيل وكهنتهم أن دعوة عيسى (عليه السلام) وتعاليمه قد فضحت جهلهم, وكشفت طرقهم في استغلال مبادئ الدين لملئ جيوبهم وتثبيت سلطانهم على الناس, رأوا أنه لا خلاص لهم من هذا المأزق إلا بالخلاص من السيد المسيح وقتله, فأذاعوا الأكاذيب عنهُ وعن دعوته وأتباعه, حتى إذا وجدوا العون والتأييد على ما هموا به ساروا في طلبهِ ليأخذوه, ولكن الله أعلَمَ المسيح (عليه السلام) بكيد الخُوان من بني إسرائيل وألقى شبههُ على شخصٍ آخر, فأخذوه مكانهُ وقيدوه وأهانوهُ وصلبوهُ على الخشبة وعذبوه حتى مات, ظناً منهم بأنهُ غايتهم عيسى ابن مريم (عليهما السلام).

قال تعالى : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ 54 إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 55} سورة آل عمران.
وقال تعالى:{ وَقَوْلهمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم رَسُول اللَّه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.وإنَ الذينَ اختلفوا فيهِ لفي شكِ منه.ما لهم بهِ من علمٍ إلا إتباع الظنَ. وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا 157 بَلْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حَكِيمًا 158} النساء.

وبهذا الفعل المشين الذي لم يكْتب الله له النجاح, كُتب الإفساد الأول على بني إسرائيل في عهد كتاب عيسى الإنجيل, وقد كان هذا الإفساد الأول في العهد الجديد امتداداً واستكمالاً لآخر إفساد في العهد القديم (التوراة), والذي تم كما ذكرت بما أوقعه بني إسرائيل من أذى وقتل بحق أنبياءهم زكريا ويحيى وكذلك مريم العذراء (عليهم صلوات الله وسلامه).
قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون  32} سورة المائدة.

وكما في غالبية المرات السابقة فقد اختلف المؤرخون والمفسرون في تحديد هوية الذين سُلطوا على بني إسرائيل عقب هذا الإفساد الكبير, وفيما يلي بعضاً من أقوالهم:
قال القرطبي: [عن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ : لَمَّا رَفَعَ اللَّه عِيسَى مِنْ بَيْن أَظْهُرهمْ وَقَتَلُوا يَحْيَى - وَبَعْض النَّاس يَقُول : لَمَّا قَتَلُوا زَكَرِيَّا - بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوك بَابِل يُقَال لَهُ : خردوس , فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِأَهْلِ بَابِل وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالشَّأْمِ , ثُمَّ قَالَ لِرَئِيسِ جُنُوده : كُنْت حَلَفْت بِإِلَهِي لَئِنْ أَظْهَرَنِي اللَّه عَلَى بَيْت الْمَقْدِس لَأَقْتُلَنَّهُمْ حَتَّى تَسِيل دِمَاؤُهُمْ فِي وَسَط عَسْكَرِيّ , وَأَمَرَ أَنْ يَقْتُلهُمْ حَتَّى يَبْلُغ ذَلِكَ مِنْهُمْ , فَدَخَلَ الرَّئِيس بَيْت الْمَقْدِس فَوَجَدَ فِيهَا دِمَاء تَغْلِي , فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا : دَم قُرْبَان قَرَّبْنَاهُ فَلَمْ يُتَقَبَّل مِنَّا مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَة . قَالَ مَا صَدَقْتُمُونِي , فَذَبَحَ عَلَى ذَلِكَ الدَّم سَبْعمِائَةٍ وَسَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ فَلَمْ يَهْدَأ , فَأَتَى بِسَبْعِمِائَةِ غُلَام مِنْ غِلْمَانهمْ فَذُبِحُوا عَلَى الدَّم فَلَمْ يَهْدَأ , فَأَمَرَ بِسَبْعَةِ آلَاف مِنْ سَبْيهمْ وَأَزْوَاجهمْ فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّم فَلَمْ يَبْرُد , فَقَالَ : يَا بَنِي إِسْرَائِيل , اُصْدُقُونِي قَبْل أَلَّا أَتْرُك مِنْكُمْ نَافِخ نَار مِنْ أُنْثَى وَلَا مِنْ ذَكَر إِلَّا قَتَلْته . فَلَمَّا رَأَوْا الْجَهْد قَالُوا : إِنَّ هَذَا دَم نَبِيّ مِنَّا كَانَ يَنْهَانَا عَنْ أُمُور كَثِيرَة مِنْ سَخَط اللَّه فَقَتَلْنَاهُ , فَهَذَا دَمه , كَانَ اِسْمه يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا , مَا عَصَى اللَّه قَطُّ طَرْفَة عَيْن وَلَا هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ . فَقَالَ : الْآن صَدَقْتُمُونِي , وَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ : لِمِثْلِ هَذَا يُنْتَقَم مِنْكُمْ , وَأَمَرَ بِغَلْقِ الْأَبْوَاب وَقَالَ : أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ جَيْش خردوس , وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه يَا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبّك مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمك مِنْ أَجْلك , فَاهْدَأْ بِإِذْنِ اللَّه قَبْل أَلَّا أُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا . فَهَدَأَ دَم يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَرَفَعَ عَنْهُمْ الْقَتْل وَقَالَ : رَبّ إِنِّي آمَنْت بِمَا آمَنَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل وَصَدَّقْت بِهِ ; فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى رَأْس مِنْ رُءُوس الْأَنْبِيَاء : إِنَّ هَذَا الرَّئِيس مُؤْمِن صَدُوق ..].

قال الباحث بسام جرار في دراسته: [قام اليهود العائدون من الشتات[2] بمحاولات عدة لتحقيق الاستقلال، أو الحصول على حكم ذاتيّ. وقد نجحت بعض هذه المحاولات لفترة محدودة حتى كان السبي على يد (تيطس) الرّوماني سنة70م، ثم السبي الروماني الأخير في عهد (هدريان) عام 135م.
[2]وهم قلّة عملت على تهويد بعض السكان في الأرض المقدّسة ليتكثَّروا بهم. ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ الغالبيّة العظمى من بني إسرائيل ذابت في الشعوب المختلفة. وعليه فإنّ الغالبيّه العظمى من بني إسرائيل أصبحوا مسلمين، والنسبة الأقل نصارى، وأقل القليل بقوا على اليهوديّة.] (8).
وقد كان هذا السبي والتدمير هو الفيصل والأخير لبني إسرائيل في بيت المقدس كأمة مُستخلفة من الله, وانقطعت النبوة من أصلابهم, ولم يبعث الله لهم من أنفسهم رسولاً جزاءً لهم على قتلهم الرُسل وغدرهم بهم, ولم يكتب الله لهم العودة والرجوع إلى بيت المقدس عما قريب كما في المرات السابقة, وإنما تشتتوا في البلاد وطال عليهم الأمد فلم يرجعوا إلى بيت المقدس وأكنافه ويجتمعوا فيه إلا قبل نحو سبعين عام, ولم يكن رجوعهم هذا برضاً ومغفرةً من الله واستخلافاً لهم على شريعتهِ,  وإنما أرجعهم سبحانهُ في هذه المرة كقومٍ عُتاة مُسَلَطِين على أُمتهِ الجديدة المُستخلفة في البيت من العرب والمسلمين, وهذا ما سوف أشرحه بإسهاب في الفقرات القادمة والجزء الاخير من هذا البحث, والتي سوف تدور في غالبيتها حول قضاء الله على بني إسرائيل في عهد القرآن الكريم.

وقبل أن أختم حديثي عن قضاء الله على بني إسرائيل في عهد الإنجيل, فإنني سأُبين مسالة مهمة قد تخطر في بال بعض القُراء:
* القضاء الجزئي:
بحسب الآيات الكريمة فإن قضاء الله على بني إسرائيل في الكتاب يتضمن على الأقل الإفساد في الأرض مرتين, وقد تمت هاتين المرتين في عهد التوراة إضافةً إلى ما قد يكون زاد على ذلك من المرات تحت قوله تعالى: {وإن عدتم عدنا}, بحسب ما هو مُفَصَل في الفقرات السابقة,  ولكن في عهد كتاب الله الإنجيل وهو الكتاب التابع لنبوة المسيح عيسى (عليه السلام), وقع إفسادُ واحد وأخير من بني إسرائيل وتحقق وعد الله عليهم بالعقوبة والإخراج من بيت المقدس, فماذا عن المرة الثانية ومتى مُقدرٌ لها أن تحْدُث؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ 14} سورة الصف.

الجواب الواقعي على هذا التساؤل هو أن الذين كفروا من بني إسرائيل قد أخرجوا من بيت المقدس بعد رفع عيسى (عليه السلام) إلى غير رجعة, وتشردوا في البلاد ولم تقم لهم قائمة, ولم يعد لله بهم حاجة كما شرحت في الفقرة السابقة, وهم الطائفة التي كفرت بعيسى (عليه السلام) وأصرت على البقاء على يهودية الآباء والأجداد وما أحدثوهُ فيها, نابذين للتجديد والإصلاح الذي أراد الله تحقيقه ببعث المسيح (عليه السلام). وعلى الجهة المقابلة فإن الذين آمنوا من بني إسرائيل صاروا من أنصار المسيح (عليه السلام), متبعين نهجهُ وهديهُ في عبادة الله متجردين عن العرقية والتعصب إلى القومية اليهودية, وقضاء الله إنما يسري على المُفسدين في الأرض من بني إسرائيل ولا يسري على المُصلحين منهم, وكنتيجة لهذه التداعيات فإن عِلة سريان قضاء الله على بني إسرائيل بشقيهم الكافر والمؤمن قد انتفت ولم يعد هناك ما يبرر وجوبه عليهم في تلك الفترة وحتى نزول القرآن.
وإن بِشارات عيسى (عليه السلام) وإنجيلهِ كانت بمثابة جسر العبور للباحثين عن الهُدى والنور, وحلقة وصلٍ بين العهدين الكبيرين, وهما عهد موسى ابن عمران الذي انقضى, وعهد محمد بن عبد الله (عليهما الصلاة والسلام) القادم.

إلا أن الجواب الأكثر عُمقاً على التساؤل المطروح في هذه الفقرة يرتبط بصاحب العهد الجديد عيسى (عليه السلام), حيثُ كان بعثهُ في خِتام عهد التوراة وأمة موسى (عليهما الصلاة والسلام), ولم يلبث في قومه إلا قليلاً حتى قضى الله بتوفيهِ ورفعهِ إليه, وكما هو ثابت فإن عودة عيسى إلى الحياة الأرضية مرة ثانية سوف تكون في ختام عهد القرآن وأُمة محمد (عليهما الصلاة والسلام), ليقضيَ ما أمرهُ اللهُ به, ويمضي ما بقي لهُ من سنوات عُمره قبل أن يرقد رقوده الأخير إلى يوم القيامة.
قال تعالى:{ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا 159} سورة النساء.
قال القرطبي:[.., والمعنى ليؤمنن بعيسى من كان حيا حين نزوله يوم القيامة ؛ قال قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري . وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى : (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) قال: قبل موت عيسى ؛ والله إنه لحي عند الله الآن ؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون ؛ ونحوه عن الضحاك وسعيد بن جبير ..., وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين} ، ثم قال أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) قال أبو هريرة : قبل موت عيسى ؛ يعيدها ثلاث مرات..]
قال ابن كثير: [قالَ الْحَسَن: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ : {إِنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ وَإِنَّهُ رَاجِع إِلَيْكُمْ قَبْل يَوْم الْقِيَامَة}].

وإن العامل المُشترك في المرتين اللتين خرج وسيخرج فيهما السيد المسيح (عليه السلام) إلى الحياة الدنيا, هو أن خروجهُ في المرة كان على فساد حال بني إسرائيل وإفسادهم في بيت المقدس, وليس من إفسادٍ هو أعظم من التظاهُر على قتل روح الله وكلمتهُ عيسى ابن مريم (عليهما السلام), وإن قتل عيسى هو كقتل أُمةً عابدة زاهدة سائحة في سبيل الله.  
وسيتجدد لقاء عيسى (عليه السلام) مع المُفسدين من بني إسرائيل في بيت المقدس, والذين بلغ إفسادهم وعُلوهم وتجبرهم ما تعلمونهُ ولا يخفى عليكم وصفه, قال تعالى: {ومن أظلمُ ممن منع مساجد اللهِ أن يُذكر فيها اسمهُ وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم 114} سورة البقرة.
ولكن في هذه المرة فإن الله سوف ينصُر عيسى ويُمكن لهُ في الأرض ويجعل العاقبة والخسران على المفسدين.

وهكذا فإن الإفساد الثاني لبني إسرائيل في عهد عيسى (عليه السلام) هو هذا الإفساد الجاري حالياً في عهد القرآن, فيكون بذلك آخر إفساد لبني إسرائيل في عهد التوراة هو أول إفساد لهم في عهد عيسى ابن مريم (عليهما السلام), وآخر إفساد لهم في عهد القرآن هو ثاني وآخر إفساد لهم أيضاً في عهد المسيح (عليه السلام).

وفي الجزء الأخير من هذا البحث وضمن تفسيري للوعد الآخر القرآني, سوف أذكر بتفصيلٍ أكثر مسألة نزول عيسى واجتماعه بالإمام المهدي (عليهما السلام), وخروجه لقتال الأعور الدجال وأعوانه من الأشرار.

قضاء الله على بني إسرائيل في القرآن 
بعد أن انقضت وعود الله على بني إسرائيل في التوراة والإنجيل, وتقوضت دعائم مُلكهم واستخلافهم في بيت المقدس واخرجوا منه صاغرين على أيدي عباد الله المُسَلَطين, تشتت بنو إسرائيل في البلاد وهاجر جماعةٌ منهم إلى منطقة الحجاز ونزلوا نواحي (يثرب), وهي ما صار يُعرف بعد الهجرة النبوية إليها ڊ (المدينة).
تمكنت قبائل اليهود المهاجرة من بناء مجتمع ٍ لهم بين القبائل العربية في يثرب, وازدادت ثرواتهم ورقعة الأرض التي يستثمرونها ويسكنون فيها, وتوسع نفوذهم فيها شيئاً فشيئاً نتيجة ً لاجتهادهم في أعمال الزراعة والصناعة والتجارة, وكان من أشهر قبائل اليهود وأكثرهم عدداً وثروة: بنو قريضة, وبنو النضير, وبنو قينقاع.

ورغم سعة العيش التي أدركها اليهود في يثرب, إلا أن الساحة لم تخلو من المنافسين, وبشكلٍ خاص بعد هجرة قبيلتي الأوس والخزرج اليمنيتين إليها وسكنهم واستيطانهم فيها في أعقاب انهيار سد مأرب. ولدفع هذا الخطر وحتى يبقى اليهود هم السادة الآمرين الناهين في يثرب, فقد عملوا على إشعال نار الفتنة بين الأوس والخزرج وحملوهم على الاقتتال فيما بينهم على مدار عقودٍ طويلة, ولم تهدأ نار العداوة والحرب ويحل السلام بين هاتين القبيلتين إلا بعد أن هدى الله قلوبهم إلى دين الإسلام, قال تعالى: {.. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا..} [آل عمران, 103].

وقد كان من الأسباب التي دعت اليهود إلى الهجرة ناحية بلاد الحجاز وبشكل خاص يثرب وما حولها, هو ما كانوا يجدونه في كتبهم من البشائر بالنبي المنتظر الذي سيظهر أمرهُ على كل البلاد, ويسطو ذكرهُ ومحبتهُ على قلوب العِباد إلى قيام الساعة, وأن خروج هذا النبي وبداية تمكنهِ في الأرض سوف تكون من تلك القرى المُباركة في مكة ويثرب, وقد كان اليهود بعدما أصابهم من الذُل والتهجير من بيت المقدس يمنون النفس أن يكون هذا النبي من قبائلهم, ويعتقدون أنهُ آخر أنبياءهم ومن أصلاب آباءهم, وأنهُ هو صاحب إيليا الذي سوف يحملهم معهُ ويعيدهم إلى بيت المقدس ويقهر أعداءهم من الروم والمجوس, إلا أن الأخبار التي جاءت من مكة خضعت لها رقاب الأحبار, وذلك أن أمانيهم الكاذبة قد فُضحت بعدما تبين لهم أن هذا النبي المُنتظر إنما هو عربيٌ قُرشيْ, مما يعني أن الدين والمُلك القادم سوف يحظى به أتباع هذا النبي من العرب خاصة ومن دخل في دينهم من عامة الناس, وانهُ لن يكون لليهود حظاً ونصيباً خاصاً من هذا السُلطان إلا بالانقياد إلى منهجهِ والخضوع لمشيئة الله مُتجردين عن الأهواء, وفي هذا تهميش للنوازع النفسية والنظرة السوداوية التي كان ينظر بها اليهود إلى من سواهم من الناس والشعوب, الأمر الذي دفعهم إلى الإسراع بتكذيب هذا النبي والانتقاص من قدره والبحث عن الفُرص والأسباب التي من شأنها حمل الناس على الانفضاض عنه ونبذ دعوته, قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ, فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ 89} سورة البقرة.

وقبل الهجرة بنحو عامٍ أو أكثر أنزل الله على خير البشر محمد (صلى الله عليه وسلم) سورة بني إسرائيل, وكان ذلك في أعقاب حادثة الإسراء والمعراج التي هي من أعظم معجزات ومآثر النبي (عليه الصلاة والسلام), وفيها سار الله بنبيه على ظهر دابةٍ سخرها لهُ اسمها البُراق, متوجهاً به من أول بيوته في الأرض المسجد الحرام إلى ثانيها المسجد الأقصى في غضون ساعة من الليل, وقيل أنهُ (عليه الصلاة والسلام) دخل المسجد الأقصى وأحيى الله له الأنبياء وصلوا جميعهم خلفهُ (صلوات الله وسلامه عليهم), ثم بعد ذلك عُرِجُ به إلى السماوات العُلى حتى بلغ سدرة المُنتهى, وجرت أحداثٌ طويلة ليس هذا محل ذكرها وتفصيلها.

وإن من الحِكَم والعِبر التي يمكننا استشفافها من هذه الرحلة النبوية من مكة إلى بيت المقدس, هي أن الله تبارك وتعالى أراد أن يربط فؤاد رسوله بهاتين القريتين معاً, ويُبشرهُ في تلك الظروف العصيبة والمُحبِطة التي كان يعيشها وأتباعهُ في مكة, أنهُ بنفس السرعة والكيفية العجيبة التي سرى وانتقل فيها راكباً دابة سماوية من مكة إلى بيت المقدس ذهاباً وإياباً في ليلة واحدة, فإن شأنهُ سيعلو وسيفتح الله له هاتين القريتين وما بينهما وحولهما ويورثه الأرض المُباركة من بعد أهلها, وهو الشيء الذي وقع وتحقق في بضع سنين من حياته وبعد مماته (عليه أفصل الصلاة والتسليم), حيث سَطت جيوش المسلمين على جحافل المُشركين وغلبوا على قُراهم وبلدانهم بسرعةٍ وكيفية لم يشهد التاريخ لها مثيل قط, وقد تحقق فتح مكة في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتحت قيادتهِ وإشرافه, بينما تسلم أمير المؤمنين راكب الدابة الأرضية عمر بن الخطاب مفاتيح بيت المقدس ودخله والمسلمين بعد نحو سبع سنين من فتح مكة.

وكذلك فإن في إسراء الله بنبيه محمد (عليه الصلاة والسلام) من مكة إلى بيت المقدس قبل هجرتهِ إلى المدينة حكمةً أرادها سبحانهُ وتعالى, وهي أن المدينة كما ذكرنا كان يسكنها ويستوطن فيها بقيةٌ من اليهود, فأراد الله أن يُعَرفَ نبيه ببيت المقدس ويُدخلهُ في حساباته قبل أن يلقى اليهود, خاصةً وأنهم سدنةُ وخُدام بيت المقدس القُدامى, فيكون بذلك مُطلِعاً على شأنهم, عالماً بأن ما كان لبني إسرائيل من عمارة بيت المقدس وتطهيره للمصلين صائرٌ إليهِ ولأمته.

وإن في نزول سورة الإسراء على خير الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) قبل هجرتهِ من مكة إلى المدينة حكمة أراداها الله عز وجل, وهي أن يطّلِعَ رسولهُ على قضاءه الأزلي على بني إسرائيل في كُتبه, وحتمية وقوعهم في الإفساد في عهد كل نبي وكتابٍ سماوي, فيتهيأ بذلك إلى لقاء اليهود في المدينة ومواجهة ما قد يقعون فيه من الإفساد.  
وعلى الناحية الأخرى فقد شاء اللهُ بحكمتهِ أن تَنْزِل آيات سورة الإسراء التي حَدَثَ بها نبيهُ محمد –عليه الصلاة والسلام- والمؤمنين عن قضاءه الذي سلف على بني إسرائيل في مكة, وقبل وقتٍ من هجرتهم إلى المدينة ومُجاورة اليهود فيها , لتكون هذه الآيات التي سوف يسمعها اليهود منهم حُجةً عليهم –أي اليهود- وإنذاراً لهم بما ينتظرهم من العذاب الشديد على غِرار ما سبق في التوراة والإنجيل, قبل أن تُسول لهم أنفسهم أن يعودوا إلى الإفساد وأذى الأنبياء وتكذيب الآيات من جديد.
قال تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنَ علواً كبيرا 4}.
وكما شرحت في مقدمة الجزء الأول فإن الأرض التي سوف تشهد إفساد بني إسرائيل تحقيقاً للقضاء الرباني عليهم, هي بالرجوع إلى الآية الأولى من السورة والتي جاءت مباشرة قبل الحديث عن إمامة موسى (عليه السلام) وقضاء الله على أُمته من بني إسرائيل, تمتد من مكة البيت الحرام, مروراً بالمدينة المُنورة (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام), وصولاً إلى بيت القصيد وهو المسجد الأقصى حرمُ أرض الشام, قال تعالى: {سبحانَ الذي أسرى بعبدهِ ليلاً منَ المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا حولهُ لنريهُ من آياتنا. إنهُ هوَ السميع البصير1}.
 وقد ذُكِرَ المسجد أيضاً في سياق وصف الوعد الآخر من القضاء, {..فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة..} آية 7.
وبين مكة والقدسُ وحولهما عاش وتنقل مُعظم الأنبياء, وتنزلت الرسالات, وفي هذه الأرض المُباركة أقام الله أمر الدين وفيها يختمهُ, وكما هو معلوم فإن وِزرَ الإفساد والمعاصي في الأراضي المقدسة يتضاعف وتشتد عقوبة الله لمرتكبيه في الدنيا والآخرة, لذا قضى الله عقوبتهُ المُؤكدة على بني إسرائيل في الدنيا جزاء إفسادهم في خير وأطهر بقاع الأرض.
وقد كان أول عهد بني إسرائيل في الإفساد في زمان استخلاف هذه الأمة هو في دار الهجرة وحرم خاتم الأنبياء مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال تعالى: {إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون 6} البقرة. فرغم تجاربهم السابقة وإفسادهم المتكرر في عهد التوراة ثم في أول عهد الإنجيل, والعقوبات الربانية التي كانت تحلُ بهم تِباعاً بعد كل إفساد, لم يعي بني إسرائيل الدرس جيداً, ولم يجدوا سبيلاً إلى الخروج من قيود بنود القضاء الرباني المكتوب عليهم, ومع بزوغ نجم النبي المُنتظر الذي يملأُ نور كتابه وشريعتهُ قلوب البشر, كان مُقدراً على اليهود مواجهة أنفسهم من جديد, فإما أن يُخالفوها ويتبعوا النهج الرشيد والرأي السديد, أو يتابعوها على أهوائها ويباشروا إفسادهم وتَعَديهم من جديد.

وقد كان من كرم الله ومَنّه عليهم أن أرسل لهم نبيه الكريم إلى حيث يسكنون في يثرب, إلا أنهم ردوا الهدية وجحدوا بالنعمة الربانية, وعَزتَ عليهم أنفسهم وغلبت عليهم شقوتهم, فأنكروا وكذبوا وأكثروا من الجِدال, وسخروا من المؤمنين والمؤمنات وأذوهم في النوادي والطُرقات, وتآمروا وتعانوا مع المشركين على غزو معسكر المسلمين, وكان تاجُ إفسادهم أذى خير النبيين والهمُ بقتل منقذ البشر من الجحيم (عليه وآله الصلاة والتسليم), وإن كادوا لينجحوا  لولا لطف وعناية رب العالمين, وإن هذا الفعل المشين لهو الإفساد العظيم والشرُ المبين, قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون  32} سورة المائدة.

وهكذا جرى القلم على بني إسرائيل بالعودة إلى الإفساد والعناد في عهد نبينا العدنان وكتابه القرآن, وهذا ما ذهب إليه وأكد عليه كبار المُفسرين من الصحابة والتابعين (رضوان الله عليهم أجمعين).
قال الطبري –رحمه الله- في تفسير آخر آية من قضاء الله على بني إسرائيل: [16682- عَنْ اِبْن عَبَّاس, قَالَ: قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْد الْأُولَى وَالْآخِرَة: {عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يَرْحَمكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } قَالَ : فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنِينَ. (يعني محمد - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, وقد كانوا من قبل يُسَلط عليهم الكافرين).
16683 - عَنْ قَتَادَة , قَالَ {عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يَرْحَمكُمْ } فَعَادَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَته { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } قَالَ : عَادَ الْقَوْم بِشَرِّ مَا يَحْضُرهُمْ , فَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَث مِنْ نِقْمَته وَعُقُوبَته . ثُمَّ كَانَ خِتَام ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْعَرَب , فَهُمْ فِي عَذَاب مِنْهُمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَة أُخْرَى { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبّك لِيَبْعَثَن عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفورٌ رحيم 167} الأعراف. 16684 - وعَنْ قَتَادَة , قَالَ {عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يَرْحَمكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } فَعَادُوا , فَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ.] (9).

وقد كان الوحي يتنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالآيات التي تعكس واقع الصراع والمعارك التي دارت بينه وبين اليهود في المدينة, وقد فضح الله نفاقهم وإفسادهم وحسدهم لهذه الأمة, وتوعدهم بالعقوبة في الدنيا والآخرة. ونجد في كتب التفسير والسيرة النبوية تفاصيل هذا الصراع منذ بدايته وحتى نهايته, وكيف سلط اللهُ عليهم هذا النبي – عليه الصلاة والسلام- وأصحابهُ , فجاسوا وداسوا قُرى بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر, واستلبوها من بين أيديهم وأخرجوهم منها صاغرين, تحقيقاً للوعد المُبين في قضاء رب العالمين, قال تعالى: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا 5}.
ومن هو أشد بأساً من محمد وأصحابه الذين قال الله فيهم: {مُحَّمَدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذينَ مَعَهُ أشدَّاءُ عَلى اٌلكُفَّار رُحَماءُ بَينهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتغُونَ فَضْلا من الله وَرضْواناً سيمَاهُمْ في وُجُوههم منْ أثَر السُّجُودِ ذَلك مَثلُهُمْ في التَوْراة وَمثَلُهُمْ في الإِنْجيل كَزَرْع أخْرج شَطْئهُ فَازَرَهُ فَاستغْلظَ فَاسْتَوَى على سُوقِهِ يُعْجبُ الزُّرَّاع لِيَغيظَ بِهِمُ اٌلكُفُّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّالَحِاتِ منْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً 29} سورة الفتح.
قال شاعر الإسلام حسان بن ثابت – رضي الله عنه-:
"ومِنا الذي لاقَى بسيف محمدٍ فجَاسَ به الأعداء عُرْض العساكر".

وفيما يلي سوف أستعرض باختصار ملابسات بعض الغزوات التي شنها المسلمون على قبائل اليهود, لنتعرف من خلالها على بعض صور الإفساد التي كان يمارسها اليهود في المدينة.
أولاً: [غزوة بني قينقاع: وكان سبب الغزوة لمِا حدث لتلك المرأة المسلمة زوج أحد المسلمين الأنصار، التي كانت في السوق فقصدت أحد الصاغة اليهود لشراء حلي لها، وأثناء وجودها في محل ذلك الصائغ اليهودي، حاول بعض المستهترين من شباب اليهود رفع حجابها والحديث إليها، فامتنعت وأنهته. فقام صاحب المحل الصائغ اليهودي بربط طرف ثوبها وعقده إلى ظهرها، فلما وقفت ارتفع ثوبها وانكشف جسدها. فاخذ اليهود يضحكون منها ويتندرون عليها فصاحت تستنجد من يعينها عليهم. فتقدم رجل مسلم شهم رأى ما حدث لها، فهجم على اليهودي فقتله، ولما حاول منعهم عنها وإخراجها من بينهم تكاثر عليه اليهود وقتلوه.
غضب النبي (صلى الله عليه وسلم) لما وقع من يهود بني قينقاع, والذي يدل على الخيانة والغدر ونقض العهد, وخرج ومعه المسلمون لمعاقبتهم فحاصروهم 15 خمسة عشر ليلة حتى اضطروهم إلى الاستسلام والنزول على حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم), الذي قضى بإخراجهم من ديارهم جزاء غدرهم وخيانتهم وكان ذلك في منتصف شوال من السنة الثانية للهجرة.
ثانياً: غزوة بني النضير: حدثت في السنة الرابعة للهجرة في منازل بني النضير جنوب المدينة المنورة بين قوات المسلمين في المدينة ويهود بني النضير الذين بلغ عددهم 1500. أتت هذه الغزوة بعد محاولة يهود بني النضير اغتيال الرسول محمد –صلى الله عليه وسلم- إذ جاءهم طالباً مساعدتهم في دية قتيلين.
عاد (عليه الصلاة والسلام) إلى المدينة وأرسل إليهم طالباً منهم الخروج من المدينة، فتحصنوا وحاصرهم عدة ليالي وبعد الحصار طلبوا إجلائهم عن المدينة فوافق الرسول –صلى الله عليه وسلم-   شرط أن يأخذوا فقط ما تحمله الإبل من دون السلاح.
ثالثاُ: غزوة بني قريظة: هي غزوة شنها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في السنة الخامسة للهجرة على يهود من بني قريظة في المدينة المنورة, انتهت باستسلام بني قريظة بشرط التحكيم فحكم عليهم سعد بن معاذ (بموافقة الرسول الكريم) بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وتقسيم أموالهم وأراضيهم على المسلمين.
وسببها انه كان بين النبي (صلى الله عليه وسلم) وبني قريظه عهدا نقضوه في غزوة الخندق و وقفوا إلى جانب قريش وغطفان حلفاؤهم فأراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يؤدبهم ويقتص منهم, ويتضح لنا جلياً السبب من خلال حديث عائشة -رضي الله عنها- الذي رواه البخاري: أن رسول الله لما رجع يوم الخندق و وضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل فقال: {قد وضعتَ السلاح! والله ما وضعناه -أي الملائكة-، قال: فإلى أين؟ قال: ها هنا، وأومأ إلى بني قريظة، فقد أتاهم الله مالا وولدا فلم يفوا الله حقه. قالت: فخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)}.
ومصداقاً لقولهِ تعالى {فجاسوا خلال الديار} – أي جنود المؤمنين- نجدهُ في أحداث هذه الغزوة, والجوسُ هو كما فسرهُ العلماء يحمل معنيين, الأول هو الدوس والسير بين الدور والمساكن بالخيل والقتل, وهو فعل الجنود, والثاني هو المشي والتردد بين منازل ومعسكر القوم للتجسس عليهم, وكشف أحوالهم, وإحداث الفتنة بينهم, وهذا المعنى نجدهُ في ما فعلهُ نُعيْم, وهو رجُلاً من غطفان - يقال له نعيم بن مسعود - جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقال قد أسلمت، فمُر بي بما شئت. فقال {إنما أنت رجل واحد. فخذل عنا ما استطعت. فإن الحرب خدعة}.
فذهب إلى بني قريظة - وكان عشيرا لهم - فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه. فقال إنكم قد حاربتم محمدا. وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا انشمروا, قالوا : فما العمل ؟ قال لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. فقالوا : قد أشرت بالرأي. ثم مضى إلى قريش فقال هل تعلمون ودي لكم ونصحي ؟ قالوا : نعم. قال إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم وإنهم قد أرسلوا إلى محمد أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يمالئونه عليكم فإن سألوكم فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان. فقال لهم مثل ذلك.
فلما كانت ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود إنا لسنا معكم بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف. فاغدوا بنا إلى محمد حتى نناجزه فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه. ومع هذا فلا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن.
فلما جاءهم رسلهم قالوا: قد صدقكم والله نعيم. فبعثوا إليهم إنا والله لا نبعث إليكم أحدا. فقالت قريظة قد صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان.] (10).

وقد كانت آخر غزوة شنها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه على قُرى ومنازل المفسدين من اليهود هي غزوة خيبر, وذلك في السنة السابعة للهجرة, وقد أُجليَ بعد هذه الغزوات المتتالية مُعظم قبائل اليهود عن أراضي المدينة, وانتهت جميع مظاهر القوة والسيادة والاستقلالية التي تمتعوا بها على مدار العقود التي سبقت الهجرة النبوية الشريفة, وكان ذلك إنفاذاً لأمر الله تعالى وقضاءه الذي قضاه على بني إسرائيل في الأزل, جزاءً على إفسادهم وإيذاءهم للرُسل.
قال تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار 2 وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ 3 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 4} سورة الحشر.

من لطائف التفسير:
* لقد عاقب الله بني إسرائيل على إفسادهم الأول في عهد التوراة على أيدي عبادٍ جبارين من الكفرة والمشركين أمثال جالوت وجنوده , حيثُ كان بني إسرائيل حينها هم الأمة المُستَخْلفة من الله في الأرض.
بينما جاء عقاب الله ليهود بني إسرائيل جزاءً على إفسادهم الأول في عهد القرآن الكريم على أيدي عبادٍ صالحين مؤمنين, هم محمد (عليه الصلاة والسلام) وأصحابهُ المُسْتَخْلَفين بحق من رب العالمين.

وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى اللهُ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبهِ وسلم.  

نُشر لأول مرة في مدونة المسبار السحري بتاريخ 24-10-2008
فكرة وإعداد : وليد أحمد القراعين    

الجزء الأول على هذا الرابط :

قضاء الله على بني إسرائيل بأقوال الأئمة والدليل ج1


  الهوامش والمراجع: 
(7) كتاب قصص الأنبياء, تأليف عبد الوهاب النجار, قصة يحيى عليه السلام.
(8) من كتـــاب (زوال إسـرائيل عام 2022م، نبوءة أم صُدَف رقميـة), الفصل الأول, (الجوس).
(9) كتاب جامع البيان في تأويل القرآن المشهور ڊ (تفسير الطبري).
(10) المصدر موقع ويكيبيديا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق