الاثنين، 25 مارس 2013

آية تحرير قبة الصخرة المشرفة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على نبيه الصادق الأمين, وعلى آله وصحبه الغر الميامين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد؛ مع وصولي إلى الإدراج الثالث عشر, يطيبُ لي الكلام عن الآية الثالثة عشر, التي وإن كانت مكونة من كلمتان, إلا أنها ثقيلة في الميزان.

قال تعالى : {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آيةً فظلت أعناقهم لها خاضعين 4} سورة الشعراء. بينما كنت أعمل على إنجاز بحث في عصرنة تفسير سورة البلد , استوقفتني آية من آيات هذه السورة , صغيرةً في حجمها , عظيمةً على من تدبر في معانيها وحاول فهمها, قال تعالى : {فكُ رقبة 13}. إنها آيةً مُنزلةً من السماء تخضع لها الرقابُ والأعناق , ولو قمنا بجمع عددي رقم آية الرقاب (13 = 1 + 3 = 4), فإننا نحصل على الرقم أربعة (4) الذي هو رقم آية الأعناق أعلاهُ.
كذلك فإن هناك علاقة رقمية عكسية بين الآيتين, وهي أننا إذا قمنا بضرب الرقم أربعة الذي هو رقم آية سورة الشعراء, بالرقم ثلاثة وهو أحد رقمي آية سورة البلد (13), فإننا نحصل على العدد اثنا عشر (4 * 3 = 12), وإذا أضفنا إلى هذه النتيجة الرقم الآخر المتبقي من رقم آية سورة البلد (13) وهو الرقم واحد (12 + 1 = 13), فإننا نحصل على الرقم (13) وهو رقم آية سورة البلد {فك رقبة}.

وبالإضافة إلى هذه العلاقة الرقمية التوافقية بين الآيتين فإن هناك ثمة علاقة معنوية ولكنها عكسية بينهما, حيثُ أن الآية الرابعة من سورة الشعراء تتحدث عن بقاء الأعناق خاضعة أسيرة لآيات الله ومعجزاته , بينما تتحدث الآية 13 من سورة البلد عن فك وتحرير الرقاب من استعباد وأسر العِباد.
وقد خضعت أعناق المسلمين منذ نحو أربعين سنة لأسر المسجد الأقصى وقبة صخرتهِ المشرفة , وقد ظلت الأمة منذ ذلك الحين الأليم ذليلةً عاجزةً عن تحرير رقبتها وتحقيق رغبتها في فتح مدينة القدس والصلاة عند صخرتها , وقد أعانني اللهُ سبحانهُ وتعالى على فك الشِفرة السرية للآية المكية {فكُ رقبة 13} , وملاحظة إشارتها الخفية إلى تحرير الصخرة القدسية وقبتها المبنية , إضافةً إلى تحديد الأسباب الفورية لتحقيق هذه الغاية من وحي الأحاديث والقصص النبوية.
وقد لخصتُ ما وفقني الله لفهمه ومعرفته في هذا البحث والمقال , عسى أن تتحقق الآيات وينقضي عن هذه الأمة عهد الأسر والاحتلال والفساد والانحلال, فإن دوام الحال من المُحال . 

لمحة موجزة عن القبة المشرفة
[تعتبر قبة الصخرة المشرفة واحدة من أبدع المعالم المعمارية المبنية على الطراز الإسلامي في العالم , وقد وُضِعَ تصميم مخطط قبة الصخرة المشرفة على أسس هندسية دقيقة ومتناسقة تدل على مدى براعة عقلية المهندس المسلم ، الأمر الذي جعلها آية من آيات الهندسة المعمارية .

 بنى هذه القبة المباركة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان , وقد جاءت هذه القبة بمثابة الدائرة المركزية التي تحيط بالصخرة وتجلس على رقبة تقوم على أربع دعامات حجرية , وقد زُينت رقبة القبة من الداخل بالزخارف الفسيفسائية البديعة ، كما فُتح فيها ست عشرة نافذة لغرضي الإنارة والتهوية . ومما لا شك فيه أن السبب المباشر في بناء هذه القبة بهذه الفخامة وهذه العظمة هو السبب الديني , فلولا وجود هذه الصخرة كرمز ديني إسلامي ارتبطت بمعجزة الإسراء والمعراج حسب ما هو مثبت في العقيدة الإسلامية , لِمَا ورد في القرآن والسنة والروايات التاريخية المنقحة ، لما قَدِم الخليفة عبد الملك بن مروان ليشيد هذه القبة فوقها] (1).

 لقد عانت قبة الصخرة كثيراً مثلما عانت معظم المساجد الإسلامية والمعالم الدينية في بيت المقدس من الاحتلال الصليبي الذي بدء عام 493 هجري , ولم يشأ الله عز وجل أن يطيل معاناة قبة الصخرة المشرفة من ذلك الاحتلال الغاشم أكثر من السنوات العجاف التسعين ، حيثُ هيأ سبحانه وتعالى القائد الجليل السلطان صلاح الدين الأيوبي , لتحرير فلسطين واستردادها من أيدي الصليبيين سنة 583 هجرية , وبذلك تطهرت قبة الصخرة المشرفة من الرجس والنجاسة التي كانت عالقةً بها ، حيث قام صلاح الدين بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الصليبيين وإزالة جميع بصماتهم التي وضعوها عليها . 

وقد وقعت قبة الصخرة المشرفة قبل أربعين سنة في قبضة اليهود وأسرهم , ولقد مرت هذه الأربعينية الحزينة على قبة الصخرة الكريمة وهي صامدة لا تستكين , وكيف لها أن تستكين وقد ادخر لها الله جل في عُلاه بعد عهد الإمام الرفاعي وصلاح الدين, خير الأئمة والمبعوثين محمد المهدي والمسيح عيسى اللذان يصلح الله بهما أمر المسلمين, ونجد في كتاب الله الكريم وتحديداً في الآية موضوع المقال وهي قوله تعالى: {فك رقبة 13}, لطيفة لغوية قرآنية وإشارة خفية إلى تحرير القبة القدسية, وموضع معراج خير البَرِية سيدنا محمد (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين).

تحرير قبة الصخرة 
قال تعالى : {فكُ رقبة 13}
[عن عمرو ابن عبسة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: {من بنى مسجداً ليُذكَر الله فيه بنى الله لهُ بيتاً في الجنة, ومن أعتق نفساً مُسلمة كانت فديتهُ من جهنم, ومن شاب شيبةً في الإسلام كانت لهُ نوراً يوم القيامة}. وفي الحديث: {من وُلد لهُ ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخلهُ الله الجنة بفضل رحمته إياهم, ومن شاب شيبةً في سبيل الله كانت لهُ نوراً يوم القيامة, ومن رمى بسهمٍ في سبيل الله بَلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان لهُ عتق رقبة, ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار, ومن أعتق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يُدخلهُ الله من أي بابٍ شاء منها} أخرجهما الإمام أحمد] (2).

هذا هو المعنى الإجمالي الظاهر للآية الكريمة, وعند قيامنا بتحليل كلمات وحروف هذه الآية فإننا نصل إلى معرفة المغزى والقصد الخفي الكامن فيها كما في الشرح التالي:
معنى كلمة فك: هو تحرير وتخليص .
رقبة: والآن سوف نعمل من الرقبة قبة, وذلك عن طريق فك حروف كلمة رقبة إلى (ر+ قبة) , بحيث نفصل مقدمتها ورأسها عنها, ورأسها هو حرف الراء, وحرف الراء هو الحرف الثالث في الآية بعد حرفي كلمة (فك), وحرف الراء هو كذلك الحرف الثالث في كلمة (صخرة) بعد حرفي (صخ), أي أن حرف الراء الذي في كلمة (رقبة) يحمل دلالة (الصخرة).
وبعد فصل الراء عن بقية حروف كلمة (رقبة) يتبقى منها (قبة).
وبهذا التفصيل الحرفي فإن كلمة رقبة = قبة الصخرة.   
وكما ذكرت في اللمحة الموجزة فإن (قبة الصخرة) تجلس على (رقبة) طويلة مُزينة من الداخل بالزخارف الفسيفسائية البديعة.
وفي كلمة (رقبة) فإننا نجد أن حرف الراء الدال على (الصخرة) قد تقدم على (القُبة), رغم أننا بحسب ترتيب الكلمات نقول: (قبة الصخرة) ولا نقول: (صخرة القُبة) , ولعل السببُ في ذلك هو أن التشريف والتعظيم هو في الأساس للصخرة , وأما القبة فهي البناء الذي احتضن هذه الصخرة وأحاط بها حفاظاً عليها واعترافاً بخصوصيتها وبمكانتها الدينية والتاريخية.
وفي النهاية فإنهُ عند قيامنا بتعويض معاني واستنتاجات كلمات آية {فك رقبة}, فإننا نحصل على النتيجة المطلوبة وهي: (تحرير وتخليص قبة الصخرة).
وإن تحرير قبة الصخرة هو كنايةً عن تحرير المسجد الأقصى وما حوله. وإذا كانت القدسُ هي بمثابة القلب النابض للأمة الإسلامية, فإن المسجد الأقصى هو بمثابة قلب القدس, وإن الصخرة المشرفة هي بمثابة قلب المسجد الأقصى.    

ولو سلمنا بصحة هذه الإشارة والاستدلال القرآني, فإننا نُضيف من خلال هذه الإشارة زهرةً أخرى إلى باقة الإعجاز الغيبي القرآني, حيث أن بناء قبة الصخرة كان في العهد الأموي المرواني, بينما جاء الاحتلال الصليبي لبيت المقدس ثم فتحهُ وتحريرهُ بعد هذا البناء بنحو 4 إلى 5 قرون, وهذا كلهُ جرى بعد عهد نزول القرآن في زمان نبينا محمد (عليه وآله الصلاة والسلام), وفي هذه الأيام وقبة الصخرة المشرفة في أبهى حُلة من العمارة والبنيان, فإن أعين المسلمين تكتفي بالنظر إليها من خلال الصور والأفلام, إلى حين يشاء الله ويأذن بتحريرها وفتحها أمام أبناء الإسلام.

وإن تقديم وظهور معنى تحرير العبيد من أسر الرق والعبودية, وتأخير وخفاء معنى تحرير قبة الصخرة من أسر الاحتلال في الآية الكريمة, إنما هو لكون رقبة العبد المؤمن أغلى وأعز عند الله من الحجارة والصخور, حتى وإن كانت هذه الحجارة تشكل بنيان أقدس مسجد وعمارة, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : {ما أطيبك وأطيب ريحك , ما أعظمك وأعظم حرمتك , والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك مالهُ ودمهُ , وإن نظنُ به إلا خيراً} رواه ابن ماجة .
وفي الحديث أيضاً: {لَهَدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل المسلم} (3).

وإذا تحرر العبد المؤمن وعَظُمت حُرمتهُ عند الناس, تحررت معهُ أرضهُ ومسجدهُ وعَظُمت حرمتهم, وإن تاريخ أمتنا الإسلامية حافلٌ بنماذج من الرجال الذين كانوا عبيداً مثل صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي, ثم صاروا بنعمة الإسلام قادة وأبطال, ومن بعدهم العبد المملوكي سيف الدين قُطز الذي أتاهُ الله المُلك وأعانهُ على هزيمة التتار في معركة (عين جالوت), وجعلهُ سبباً في إنقاذ مصر والأمة من شرٍ عظيم وخطرٍ داهم, قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 247 ... فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ 251} سورة البقرة.
ومن قبل هؤلاء الصحابة والرجال كان نبي الله يوسف ذو البهاء والجمال عبداً عند أهل مصر, ثم صار بعد قهر العبودية سيداً وسبباً في هداية أهل مصر وإخراجهم من عبادة العِباد إلى عبادة رب العِباد, وسبباً في إنقاذهم من الجفاف والجوع.

من واقع الحال
يُغلق أهل فلسطين بعد حوالي شهر من الآن الباب السابع من أبواب جهنم, والتي فتحها عليهم الغائب شارون في العام 2000م, وذلك عقب محاولته اقتحام ساحة المسجد الأقصى في يوم الجمعة الذي تجتمع فيه حشود أبناء الإسلام لأداء صلاتهم الأسبوعية, وقد كان هذا الفعل الاستفزازي بمثابة الشرارة التي أشعلت نيران الحرب الطاحنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
 وتأتي ذكرى انتفاضة المسجد الأقصى المبارك في هذا العام 2007م, مصادفة لنفس اليوم والتاريخ الذي بدأت فيهما, وذلك في يوم الجمعة لثمانٍ وعشرون يوم ٍ مضت من شهر أيلول , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {من الجمعة إلى الجمعة كافرةٌ لما بينهما} , عسى اللهُ أن يجعلنا من أهل الجُمع والجماعات , وأن يجمع شمل المسلمين ويتقبل منهم طاعاتهم ويغفر لهم زلاتهم, ويثبتهم على الدين وينصرهم على المعتدين, إنه على ما يشاءُ قدير وبالإجابة جدير.

قال تعالى: {فلا اقتحم العقبة 11 وما أدراك ما العقبة 12 فك رقبة 13}
بعد أن قمتُ بفك شِفرة آية {فك رقبة}, سوف أنتقل إلى فك شِفرة الآيتين اللتان تسبقانها مباشرة في سورة البلد, واللتان تحملان بين ثناياهما دلالة أخرى لها علاقة وارتباط بالمسجد الأقصى المبارك, على النحو التالي:
{فلا اقتحم العقبة 11 } عن ابن عمر في قوله تعالى: {فلا اقتحم} أي دخلَ {العقبة} قال: جبل في جهنم. وقالَ قَتَادَة إِنَّهَا عَقَبَة قَحْمَة شَدِيدَة فَاقْتَحِمُوهَا بطاعة الله تعالى.
{وما أدراك ما العقبة 12}, قال قتادة: (وما أدراك ما العقبة ثم أخبر تعالى عن اقتحامها).
ومن الناحية الحرفية واللفظية: إن حرف القاف الذي في وسط كلمة (العقبة) يشابه في رسمه التاء المربوطة (ة), وبالاستفادة من كلمة (فك) التي في الآية (13) نقوم بقك رباط التاء لتتحول إلى تاء مبسوطة (ت), وعليه فإن كلمة (العقبة) تصبح (العتبة), وعند تعويض كلمة (العتبة) في الآيتين الكريمتين بدلاً من (العقبة) فإنهما يصبحان: {فلا اقتحم العتبة 11 وما أدراك ما العتبة 12}.
وقد وقعت كما ذكرت في الفقرة السابقة حادثة اقتحام مقصودة واستفزازية لعتبات المسجد الأقصى, وكان زعيم هذا الاقتحام وقائده هو رئيس الوزراء الإسرائيلي الغائب (شارون), وقد ترتب على هذا الاقتحام انقلابٌ رهيب ومخيف في ساحة الأحداث, ليس في الأراضي الفلسطينية فحسب, ولكن في مختلف بقاع المنطقة والعالم ككل.
وقد تبع الحملة التي قادها شارون لاقتحام العتبات المقدسة, حملات شرسة قادها شارون أيضاً لاقتحام عتبات المدن الفلسطينية ونزع أمنها وتخريب بنيانها, إضافةً إلى كرةً خاسرة قام بها الجيش الإسرائيلي محاولاً اقتحام جنوب لبنان, وانتهت هذه المحاولة الفاشلة على أبواب وعتبات الجنوب, وارتد جيش اليهود إلى مناطقه بما بقي معه من العتاد والجنود.
وباستثناء سلاح الطيران والرمي من بعيد, فقد أثبت الجيش الإسرائيلي من جديد أنه عاجز عن المواجهة والقتال على الأرض, وفي هذا تصديق لقوله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون 14} سورة الحشر.
قال ابن كثير: (يعني أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام, بل إما في حصون أو من وراء جُدر محاصرين, فيقاتلون للدفعِ عنهم ضرورةً).
وقياساً بضعف إمكانات الشعب الفلسطيني فإن الدبابات هي بمثابة حصون يختبئ فيها الجندي الإسرائيلي, وكذلك فإن الطائرات هي بمثابة حصون يصعُب بالأسلحة التقليدية الوصول إليها وإصابتها.
وقد فاتت على شارون الذي أهلكه وغيبه المرض فرصة تكرار عملية اجتياح الأراضي اللبنانية, وذلك بعد حملةٍ ناجحة قادها في بداية الثمانينات من القرن المنصرم. وعلى الجهة المقابلة فقد أثبت اللبنانيين بقيادة جنود حزب الله المؤمنين أنهم لا يلدغوا من جحرهم مرتين.
قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ 96} سورة البقرة.

[وَلَتَجَدِنَّهُمْ أَحْرَص النَّاس عَلَى حَيَاة أَيْ عَلَى طُول الْعُمْر لِمَا يَعْلَمُونَ مَآلِهِمْ السَّيِّئ وَعَاقِبَتهمْ عِنْد اللَّه الْخَاسِرَة لِأَنَّ الدُّنْيَا سِجْن الْمُؤْمِن وَجَنَّة الْكَافِر فَهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَأَخَّرُوا عَنْ مَقَام الْآخِرَة بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ وَمَا يُحَاذِرُونَ مِنْهُ وَاقِع بِهِمْ لَا مَحَالَة , حَتَّى وَهُمْ (أي اليهود) أَحْرَص مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا كِتَاب لَهُمْ] تفسير ابن كثير.

ونلمسُ حرص اليهود الشديد على الحياة من خلال الطريقة التي تعاملوا بها مع حالة قائدهم (شارون) المرضية الميئوس أو شبه الميئوس منها, وعملوا جاهدين بكل الوسائل الطبية المتاحة على إيجاد مخرج لهُ من الموت المُحتم وإبقاءه في زُمرة الأحياء, وإن لهذا السلوك أيضاً أسبابه وتداعياته السياسية على المجتمع والدولة الإسرائيلية, ولعلهم أرادوا من خلال هذه العناية الغاية في الشفافية برئيسهم الغائب أن يوصلوا رسالة قصيرة لخصومهم مفادها هو: (رويدكم إنَ نار الحرب التي أوقدها شارون لا تزال مُشتعلة ولم تأتي بعد ساعة انطفائها).

إن الحياة الصناعية بالأجهزة الطبية الحديثة التي يحياها شارون في غيبوبة الموت , هي بمثابة عقاباً لهُ من جنس التقنيات المتطورة التي كان يستعملها في محق الشعب الفلسطيني المتواضع الإمكانيات , لأن هذه الأجهزة قد أطالت عليه أمدَ الألم والعذاب والنزاع , وحرمتهُ من أبسط كرامة يحظى بها الأموات وهي الدفن , وأفسدت عليه سكينة القبر وراحة الموت رغم أنهُ قد لا يجد شيئاً من هذه الراحة والسكينة فيهما, وحُرمَ أيضاً من حضانة الأرض التي جُبلَ من طينتها , والتي ربما تكون إلى الآن غير راضية عن احتضان مثل هذا الجثمان الذي أثخنَ فيها من القتلى والخراب , وإن لهُ في هذا أسوةً بعدو بني إسرائيل بالأمس البعيد ملك الاستكبار فرعون الذي لفظتهُ البحار الملح الأُجَاج, وأخرج اللهُ جسدهُ منها لينظر إليه بني إسرائيل ويشهدوا ما قضاه الله عليه من الغرق والزوال بعدما أحدثهُ لهم من الأذى والاعتلال. قال تعالى : {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ 92} سورة يونس.

وإنَ لشارون صاحب الحظ العظيم من القوة والعتاد مقارنةً بنظرائه الفلسطينيين, أسوةً كذلك بالعدو الآخر القديم لبني إسرائيل, وهو قارون صاحب الحظ العظيم من الثروة والكنوز, والذي كان يحرم فقراء بني إسرائيل حتى من فضلات طعامه , كما كان يحرم شارون المستضعفين الفلسطينيين حتى من دفن أشلاء موتاهم, ففرح بنو إسرائيل أشد الفرح لهلاكه, كما فرح المستضعفين من الفلسطينيين بمرض شارون ونهاية فترة رياسته. قال تعالى: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم, وآتيناهُ من الكنوز من إنَ مفاتحهُ لتنوءُ بالعُصبةِ أولي القوة إذ قال لهُ قومهُ لا تفرح, إن الله لا يُحبُ الفرحين 76.. وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ 82 تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83} سورة القصص .
ورغم أن غياب شارون له فرحته الخاصة في قلوب الفلسطينيين لشروره الكثيرة وإفراطهِ عليهم بها, إلا أنها تبقى فرحة عابرة ومؤقتة ما دامت السياسة الإسرائيلية على حالها وطريقتها المعهودة في التعامل مع كيانهم ووجودهم.

باتجاهٍ آخر ..
وحتى لا أجعل اللائمة كلها فيما يصيب الفلسطينيين والعرب على شارون ودولته ومن مثلَهُم, أقول: إن الظُلم والعدوان الذي يُلحقهُ أعداء الأمة العربية والإسلامية بها, إنما منبعهُ ظلم أبناء الأمة لأنفسهم وعدوانهم على بعضهم البعض, وكذلك معصيتهم لربهم وتركهم سُنة نبيهم عليه الصلاة والسلام وأئمتهم الحاضرين والغائبين, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {قال الله تعالى إذا هتكوا عبادي حرمتي , واستحلوا محارمي , وخالفوا أمري , فسلطت عليهم جيشاً من المشرق يقال لهم الترك , هم فرساني أنتقم بهم ممن عصاني , نزعت الرحمة من قلوبهم , لا يرحمون من بكى , ولا يجيبون من شكا , يقتلون الآباء والأمهات , والبنين والبنات , يهلكون بلاد العجم (أفغانستان) , ويأتون العراق / فيفترق جيش العراق ثلاث فرق , فرقة يلحقون بأذناب الإبل , وفرقة يتركون عيالهم وراء ظهورهم , وفرقة يقاتلون فيقتلون , أولئك هم الشهداء تغبطهم (تحسدهم)الملائكة , فإذا رأيتم ذلك فاستعدوا للقيامة} . قالوا يا رسول الله , إذا أدركنا ذلك الزمان أين تأمرنا نسكن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {عليكم بالغوطة بالشام , إلى جانب بلد يقال لها دمشق , خير بلاد الشام , طوبى لمن كان له فيها مسكن ولو مربط شاة , فإن الله تعالى تكفل بالشام وأهله} (4).

* {جيشاً من المشرق}: المشرق مكانياً يدلُ على جهة الشرق, وزمانياً يدلُ على وقت الصُبح والشروق, قال تعالى: {إن موعدهم الصبح أليسَ الصبح بقريب} [هود, 81], وقال تعالى : {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ 98} الأعراف. وعلى سبيل المثال فإن الجيش الأمريكي الذي غزا العراق يندرج تحت جملة (جيشاً من المشرق), رغم أنهُ جاء وافداً من بلاده إلى هذه المنطقة, وذلك لأنه مكث في جزيرة العرب واستقرَ فيها سنوات طويلة إلى أن دخل منها إلى أرض العراق وخربها, وقد يُقال : (من عاشَ في أرضٍ أربعين يوماً صار منها). وعلى نفس المنوال الجيش الإسرائيلي الذي استوطن واستقر في أرض فلسطين منذ عدة عقود, والذي ما يفتأ يهاجم الفلسطينيين ومدنهم في كل حين, وجزيرة العرب وأرض فلسطين تنتسبان جغرافياً إلى المشرق أو ما يُسمى ﺑ (الشرق الأوسط), لذا فإن هذه الجيوش المُسلطة على أمتنا العربية والإسلامية هي جيوش مشرقية قريبة منها تسكن وتُعسكر في ربوعها, قال تعالى: {ولو ترى إذ فزِعوا فلا فوت وأُخذوا من مكانٍ قريب 51} سبأ.
وقد شهد تاريخ هذه الأمة حملات همجية عدة كهذه المذكورة في الحديث مثل: الحملة الصليبية على الشام, والتتارية على العراق, والأسبانية على المغرب العربي.
* {التُرك}: جغرافياً وتاريخياًهم شعوب أوروأسيوية تُقيم في شمال وغرب ووسط أوراسيا ومنهم التتار والمماليك والعثمانيون, ولعل التُرك من الناحية المعنوية هنا هي كنايةً عن من ترك الدين والمبادئ من الناس والشعوب ولم يروا حقاً للخالق عليهم, وهم كذلك من لا ذمة لهم من المرتزقة التاركين أوطانهم وأهلهم, ومثل هؤلاء من لا يرحم الناس ولا يرعى حُرمتهم في مقابل حياته ومصلحته.
* {عليكم بالغوطة بالشام}: وها قد تحققت نبوءة النبي العدنان (عليه الصلاة والسلام) وذلك أن معظم أهل العراق الذين خرجوا من بلادهم لجأوا إلى بلاد الشام خاصة سوريا والأردن.
* {طوبى لمن كان لهُ فيها مسكن}: وهذه نبوءة ثانية قد تحققت, حيثُ تسبب الطلب المتزايد على الشقق السكنية والعقارات نتيجة الأعداد الكبيرة للاجئين العراقيين بارتفاع مطرد وسريع على أسعار المساكن والعقارات, وقد جنى أصحاب العقارات والعاملين فيها أرباحاً كبيرة من بيع وتأجير عقاراتهم, وصار شراء واستئجار الأراضي والشقق والمحال التجارية مقتصر على الفئات المقتدرة مالياً, بينما صار المواطن البسيط والمتوسط الإمكانيات في هذه المرحلة شبه عاجز حتى عن استئجار شقة للسكن في بلده.

وبعد أن استعرضنا جانباً من أسباب الحملات الهمجية التي يشنها أعداء الأمة عليها, فإن السؤال الذي يطرح نفسهُ هو: لماذا ينصبُ عذاب الله على هذه الأمة في حالة عصيانها دون غيرها من أمم الدنيا الأشد عصياناً وطغياناً منها ؟
الجواب: إن هذه الأمة العربية الإسلامية هي آخر الأمم التي خرج منها الأنبياء, ونزلت عليها الرسالات, وهي مكلفة من رب السماوات بدعوة الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده لا شريك لهُ, والإيمان بكتبه ورسله دون تفريق بين أحدٍ منهم, ومتى تركت الأمة هذا التكليف والتشريف الرباني أصابها الله بصنوف البلايا وجمع عليها أمم الأرض من الذين تخلت عن أداء واجبها الدعوي تجاههم وسلطهم عليها, فلا سبيل لنجاة هذه الأمة ونُصرتها إلا بالدين الذي ارتضاهُ الله لها وأعزها به, كما قال فاروقها العادل الذي كانت الأكاسرة والقياصرة تهتز على عروشها هيبةً منه : (إن الله أعزنا بالإسلام ومتى ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله). ولا يزال الله تبارك وتعالى يرأف بحال هذه الأمة ويرفع عنها البلايا ببركة علمائها ودُعاتها وأولياءها الصالحين وأبناءها المستمسكين بالدعوة والدين, قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]
وإن تعجيل العذاب لأبناء أمة الإسلام في الدنيا هو ليرحمهم الله المنان من عذاب يوم الدين, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة} رواه الترمذي.
وأما عن سبب انصباب هذا العذاب الرباني من حروب وكوارث وأزمات على بلاد وقرى معينة دون غيرها, فهو لخصوصية هذه البلاد وأهميتها الاقتصادية والجغرافية والإستراتيجية ونحوه, ومن الناحية الدينية فإن الله يبتلي البلاد والعباد للأسباب التالية: السبب الأول هو فساد وظلم أهل هذه البلاد, وهنا يأتي البلاء لتطهير هذه البلاد وإصلاحها. السبب الثاني هو وشوك الفتن أن تصيب أهل القرى والبلاد, فيأتي الابتلاء لهم من الله لوقايتهم من شر هذه الفتن وصرفها عنهم. وأما السبب الثالث فهو محبة الله لأهل هذه البلاد واختصاصه بهم, ويأتي الابتلاء في هذه الحالة لرفع درجات أولئك العباد ومضاعفة أجورهم واجتباءهم في الدنيا والدين, قال سيد المرسلين (صلى الله وسلم عليه وآله أجمعين): {إنَ عِظَمَ الجزاء مع عِظم البلاء, وإنَ الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فلهُ الرضا ومن سَخِط فلهُ السخط} رواه الترمذي. وإن غالبية بلادنا وقرانا الإسلامية اليوم يجتمع فيها هذه الأسباب الثلاثة, فينزل فيها البلاء للتطهير والوقاية والاجتباء.
والأمة المؤمنة كما وصفها سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم: {كالجسد الواحد, إذا اشتكى منهُ عضواً تداعى لهُ سائر الجسد بالسهر والحُمى}, أي أن البلاء الذي ينزل بأي بلدٍ أو شعبٍ مسلم تتأثر به سائر البلاد والشعوب الإسلامية نفسياً ومادياً.

إن إسرائيل دولة ذات قوة وسيادة أيدتها القوى العالمية العظمى حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من مَنعة وقدرة على البقاء, وإن ما فعلهُ شارون وحكومته من قمع لحركات المقاومة الشعبية الفلسطينية يشبه في نظر هذه القوى العالمية ما قد تفعلهُ الكثير من الأنظمة العربية والأجنبية ضد المخالفين لها والثائرين عليها بغض النظر عن كونهم أصحاب حق أو مُجرد عابثين, فالعالم شرقه وغربه لا يقوم على مبادىء العدالة والحرية بمعانيها الحقيقية, وإنما هو صراع بين الحضارات والقوى والمصالح والكلمة العُليا فيه بعد كلمة الله هي للأقوياء, وهذا من عموم البلوى. عن حذيفة قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : { ويحُ هذه الأمة من ملوكٍ جبابرة , كيف يقتلون ويُخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم , فالمؤمن التقي يُصانعهم بلسانه , و يفرُ منهم بقلبه , فإذا أراد الله عز وجل أن يعيد الإسلام عزيزاً , قصم كل جبار , و هو القادر على ما يشاء أن يُصلح أمةً بعد فسادها … ثم قال عليه الصلاة والسلام : يا حذيفة , لو لم يبق من الدنيا إلا يومٌ واحد , لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من آل بيتي , تجري الملاحم على يديه , ويظهر الإسلام , لا يخلف وعده , وهو سريع الحساب } (5).

نهاية إقدام العقول عِقال .. وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جُسومنا.. وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا .. سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من رجال قد رأينا ودولةٍ .. فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبالٍ قد علت شرفاتها .. رجالٌ, فماتوا والجبال جبالُ   (الإمام فخر الدين الرازي).


إن قيام أنظمة عادلة مؤمنة بربها في هذه المنطقة , قادرة على تكريس قيم العدالة والإيمان في مجتمعاتها, سيُغنيها ويغني المُستضعفين من أبناءها عن مثل دروس الأستاذ الجبار شارون وعصاه الموجعة, وستُغلق الأمة فَصلاً مؤلماً لطالما كرههُ الطلاب وتمنوا نهايتهُ وزواله, وعندها قد تتحول منطقتنا الشرقية من دول مستوردة لمن يلقنها دروساً من الأساتذة إلى دول مُصدرة لهم, كما كانت من قبل منارة علمٍ وإيمان لكل العالم والأنام, ونرجو أن لا يطول أمد تحقق هذه البشرى خاصةً وأن الدروس الخصوصية مكلفة جداً وتُثقل كاهل أسرتنا العربية والإسلامية. 

وصفة نبوية لتحرير الصخرة القدسية
عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏: ‏ {انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَن كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهم الْمَبِيتَ إلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صخرة من َالجبلِ فسَدَتْ عليهمُ الْغَارَ فَقَالُوا إنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ من هَذِهِ الصخرة إلاَّ اَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ اَعْمَالِكُمْ‏.‏ فَقَالَ رَجُلٌ منهُمُ اللَّهُمَّ كَانَ لِي أبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أغْبِقُ قَبْلَهُمَا أهْلاً وَلاَ مَالاً، فَنَأي بِي فِي طَلَبِ شَىْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ اُرِحْ عليهمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَىَّ اَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إن كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ من هَذِهِ الصخرةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ ‏‏‏.‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏‏ وَقَالَ الاخَرُ اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إِلَيَ، فَاَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مني حَتَّى ألَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ من السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى اَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لاَ اُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ‏.‏ فَتَحَرَّجْتُ منَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَأفْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ‏.‏ فَانْفَرَجَتِ الصخرةُ، غَيْرَ أنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ منهَا‏.‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ اِنِّي اسْتَأجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ منْهُ الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أدِّ إِلَيَّ أجْرِي‏.‏ فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى من أجْرِكَ من الإبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ‏.‏ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي‏.‏ فَقُلْتُ إنِّي لاَ اَسْتَهْزِئُ بِكَ‏.‏ فَأخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ منْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَاِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَأفْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ‏.‏ فَانْفَرَجَتِ الصخرةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ}‏‏.

قال تعالى : {وعلى الثلاثة الذين خُلِفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرضُ بما رحُبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله ِ إلا إليه ثُمَ تاب عليهم ليتوبوا. إن اللهَ هو التوابُ الرحيم 118} سورة التوبة.

لقد غاب عنَا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بجسده الشريف , إلا أنهُ لا يزالُ بيننا بنورهِ وعلمهِ الذي يهدينا إلى سبيلِ رشدنا ويفتح أمامنا أبواب الخير والفلاح , وأُمتنا اليوم في أمسِ الحاجةِ إلى التماس هديهِ وآثاره عليه الصلاة والسلام لفتح ما انسدَ في وجه المسلمين من الأبواب المؤدية إلى أرض فلسطين , وبشكلٍ خاص باب مدينة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين مدينة القدس الشريف , حيثُ أننا نستشفُ من هذه القصة النبوية الجميلة في أحداثها الجليلة في معانيها أسباب تفريج الكروب واستجابة الدعوات وتحقُق الغايات.
فإذا كانت (الصخرة) في قصة هؤلاء النفر الثلاثة هي الحائل والمانع الذي سد الطريق في وجوههم, فإن (الصخرة) في واقع أمتنا الحاضر هي المَحُول عنه والممنوع الوصول إليه, وإذا كانت تلك الأعمال الصالحة التي دعا الله بها هؤلاء الثلاثة هي السبب في انفراج الصخرة من أمام طريقهم, فإن ما يُناقض هذه الأعمال الثلاثة في واقع أمتنا هو السبب في سد الطريق إلى صخرتنا المُشرفة, والتي هي كما ذكرت رمزاً وكناية عن المسجد الأقصى وما حوله من الأرض التي بارك الله فيها.
ولنبدأ ببيان العمل الصالح الأول وهو (بر الوالدين) استجابةً لما قضاه رب العالمين في كتابه الكريم بقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا 23 وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا 24 رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا 25} الإسراء.

وإننا إذا تأملنا في واقع مجتمعاتنا نجد أن كلمة (أُفٍ) والصوت العالي في وجه الأبوين هو أقل ما يُقال لهما من أبنائهم إلا من رحم ربي وهم قليل, وإن تفشي سوء معاملة الوالدين وعقوقهما هو العمل السيئ الأول الذي سُدت به فُرجةً من الطريق إلى بيت المقدس.

وأما العمل الصالح الثاني فهو (ترك الزنا وقضاء شهوات النفس إلا بما أحله الله سبحانه وتعالى), وإنه لا يخفى عليكم ما ظهر في زماننا هذا من إتيانٍ للشهوات وارتكابٍ للفواحش, حتى أعلنَ بها الناس وصاروا يفعلونها سِراً وجهاراً, ليلاً ونهاراً, بل إنهم صاروا يزعمون أن ما يأتونهُ من فواحش وآثام انقياداً لشهوات أنفسهم هو تقدم وحضارة ومواكبة لروح العصر, وصاروا يُسمون هذه الفواحش بغير أسماءها تصديقاً للحديث الذي رواهُ أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه – عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: { ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، فيخسف الله بهم الأرض, ويجعل منهم القردة والخنازير} رواه ابن ماجة.
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: { ليكونن أقوام، أو أناس من أمتي يستحلون الحرا، والحرير } رواه البخاري. الحرا: هو الفرج, وهو كناية عن الزنا.
فصارت الخمور والمُسِكرات تُسمى (مشروبات روحية) وما هي إلا خبالاً وحيوانية, وصار الحرا الذي يأتيه الناسُ في الطُرقات يُعتبر (حُرية شخصية), وصار ما تلبسهُ النساء من ثيابٍ تكشف عوراتهن يخضع لمنطق (الموضة والأزياء) الذي يروجهُ الأعداء, وصار الكفرُ والإلحاد يُعدُ (فكرٌ وآداب), والخيانة والاحتيال (ذكاء وشطارة), والكذب (فصاحة ولباقة لسان), وقلة الأدب والوقاحة مع الكبار وأولياء الأمر (قوة شخصية وتحرُر), إلى ما لانهاية من انقلابٍ في المعايير الأخلاقية والاجتماعية.
وإن الإباحة والاستباحة لما حرمهُ الله دون ورعٍ أو حياء, هو العمل السيئ الثاني الذي سُدت بهِ فرجةً أُخرى من الطريق إلى بيت المقدس, عبد الله ابن عمر قال:
أقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال:{يا معشر المهاجرين ! خمس إذا ابتليتم بهن و أعوذ بالله أن تدركوهن : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا, و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلا أخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جور السلطان عليهم, و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء و لولا البهائم لم يمطروا, و لم ينقضوا عهد الله و عهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم, و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله و يتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم } رواه ابن ماجه.

وأخيراً فإن العمل الصالح الثالث هو (أداء الأمانة إلى أهلها), وقد انتشرت في مجتمعاتنا الكثير من مظاهر الغش والاحتيال في الأسواق, وأروقة السياسة, ومنابر الإعلام, وبين أفراد الأسرة الواحدة, وإذا ضَيَع الناس الأمانة الكبرى وهي الإيمان بالله وحده لا شريك له, وتصديق ما أنزلهُ على أنبيائه من نورٍ وحكمة كما أخذ عليهم العهد يوم خلقهم, فأنى لهم أداء الأمانات فيما بينهم, قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ 172} الأعراف.
وتضييع الأمانة والتفريط بأداء حقها هو العمل السيئ الثالث الذي سُدت على إثره آخر فُرجة من الطريق المؤدية إلى المسجد الأقصى وصخرتهُ المُشرفة.
وإن تلك الفجوة الضيقة الباقية التي ينفدُ من خلالها بعض أهل القدس وفلسطين إلى ساحات المسجد الأقصى ومبانيه, إنما هي ببصيص النور والإيمان الذي ينبعث من قلوب طائفةٍ مؤمنة ثابتة على الحق من أبناء الإسلام, ولكن في حال بقيت الأمة على ما هي عليه من تراجُع واستسلام في أمور دينها ودنياها, فإن هذا البصيص المتبقي لها سوف ينطفئ ليحل في بيت المقدس ظلامٌ دامس لم تشهده الأمة منذ قُرونٍ طِوال, وإنهُ إن لم تظهر في القريب العاجل بوادر الإصلاح والتغيير في هذه الأمة وطريقتها في التعاطي مع الوقائع, فإن رحلتها إلى بيت المقدس التي لا تستغرق من الوقت أكثر من ساعات أو سويعات, سوف تطول كثيراً وتمتد إلى عقود وسنوات.

عسى اللهُ أن يُفرجَ حبس المسلمين عن شد الرحال إلى المسجد الأقصى والصلاة تحت قبة صخرته المشرفة , كما فَرَجَ حبس أولئك النفر من الرجال الذين سَدَتْ الصخرة طريقهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على خير المرسلين محمد, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.   

 الهوامش :
1- هذه المعلومات منشورة في عدد من المواقع الإلكترونية.
2- تفسير ابن كثير.
3- ذكره الشيخ العجلوني في كشف الخفاء.
4- من كتاب عقد الدرر في أخبار المُنتظر, باب الفتن الدالة على ولاية المهدي.
5- أخرجهُ الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في (صفة المهدي).


* نُشر لأول مرة على مدونة المسبار السحري بتاريخ 24-8-2007
 فكرة وإعداد : م. وليد الكراعين 


 


   
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق