الثلاثاء، 26 مارس 2013

المحرقة الفرعونية والمحرقة النازية في آية قرآنية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبهِ ومن والاه بإحسانٍ إلى يوم نلقاه. أما بعد ؛ قال تعالى: {وما من غائبةٍ في السماء والأرض إلا في كتابٍ مُبين 75 إنَ هذا القرآن يقصُ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون 76} سورة النمل.

المحرقة النازية أو ما يُعرف اصطلاحاً ﺑ (الهولوكوست) هي عبارة عن حملات مُنظمة من قِبل حكومة ألمانيا النازية بقيادة (أدولف هتلر) وبعض حلفاءها لغرض الاضطهاد والتصفية العرقية لليهود في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية, ويرى مُعظم المُؤرخين أن الهولوكوست من أكثر حوادث العصر الحديث توثيقاً بالصور والأفلام والوثائق وأنهُ من غير المنطقي إنكار حادثة بهذه الضخامة, إلا أنه ثمة من يُشكك بحدوث المحرقة النازية بإنكارها بالكُلية أو بالتقليل من حجمها, ويرجع سبب هذا الإنكار إلى الشكوك بعدم نزاهة وعدالة وقانونية المُحاكمات التي جرت ضد المُتورطين بارتكاب هذه الجرائم, إضافة إلى أن توقيت حدوث هذه المحرقة بالتزامُن مع الحرب العالمية الثانية وحالة الفوضى العارمة والتنافُس الذي كانت تعيشه الدول الأوروبية المُتناحرة, كفيل بخلق بيئة مُترعة من الشُبهات والدعايات والأكاذيب, مما يجعل من مهمة إثبات أو نفي تلك الحوادث بشكل مُطلق أمراً صعباً في ظل اختلاط الأوراق وعدم وجود وثائق رسمية تُقر بحدوثها, ويقول بعض من يُنكر الهولوكوست أن مزاعم الهولوكوست كان الغرض منها التسريع في منح اليهود وطناً مُستقلاً عن أوروبا, ولكن إلى الآن فإن تيار المُشككين بحدوث المحرقة النازية أو المُنكرين لها بالكُلية يبقى هو الأضعف والأقل شاهداً قياساً بالتأكيدات والشواهد التي تدل على حدوثها بإطاريها الضخم أو المعقول نسبياً, وسواءٍ أوقعت هذه المحرقة أم لم تقع فقد كان لليهود ما أرادوا وتم توطينهم في فلسطين أرض الأجداد والميعاد.

وقد جاءتني فكرة كتابة هذا البحث عن المحرقة النازية في أثناء كتابتي لبحث (قضاء الله على بني إسرائيل بأقوال الأئمة والدليل) المنشور على صفحات هذه المدونة في ثلاثة أجزاء, وتحديداً عندما شرعتُ في تفسير الآية 104 من سورة بني إسرائيل والتي قال اللهُ فيها: {وقُلنا من بعدهِ لبني إسرائيل اسكُنُوا الأرضَ فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفاً 104}, حيثُ جمعت هذه الآية العظيمة من كلام الله البليغ المُعجز بين العهد الأول لسكن بني إسرائيل في أرض فلسطين وخاصةً بيت المقدس والعهد الآخر الحالي لسكنهم فيها, وقد كان لسكن بني إسرائيل في فلسطين وبيت المقدس مُقدمات مأساوية وأحداث مُؤلمة في عهدهم الموسوي الأول, تماماً كتلك المُقدمات والأحداث التي سبقت سكنهم في فلسطين والقدس في عهدهم الآخر الذي نَفَذَ قضاء الله بهِ عليهم في زماننا هذا, وحتى تتضح الصورة أكثر عن هذه الخبر القرُآني الغيبي الذي ذكر ماضي بني إسرائيل وتنبأ بمستقبلهم, لا بُد من العودة إلى بداية السرد القرآني لهذا الخبر الذي بدأ بقوله تعالى: {ولقد آتيْنا موسى تسعَ آياتٍ بيِناتِ , فَسْئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال لهُ فرعون إني لأظُنُك يا موسى مسحورا 101 قال لقد علمتَ ما أنزلَ هؤلاءِ إلا ربُ السماوات والأرض بصائر وإني لأظُنك يا فرعون مثبورا 102 فأراد أن يستفزهم من الأرضِ فأغرقناهُ ومن معهُ جميعاً 103 وقُلنا من بعدهِ لبني إسرائيل اسكُنُوا الأرضَ فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفاً 104}.   

يُخبر تعالى أنهُ بعث موسى بتسع آيات بينات, وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه, فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون, وهي (العصا, واليد, والسنين, والبحر, والطوفان, والجراد, والقُمل, والضفادع, والدم) آيات مُفصلات, قال تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمَل والضفادع والدم آياتٍ مُفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين 133} سورة الأعراف, وبعد أن شاهد فرعون من موسى ما شاهد من هذه الآيات زعم أنها من السحر وأن موسى عليه السلام ساحر, فرد عليه موسى عليه السلام بما وقع حقيقةً في نفسه من تصديق لهذه الحُجج والبراهين القاطعة وإنما هي من عند الله رب السماوات والأرض, ولكن كِبر فرعون وجُحوده وتشبُثه بصولجان المُلك هو ما منعه من الاعتراف بهذه الحقيقة التي وقرت في قلبه, لذلك وصفه موسى عليه السلام بالملعون الهالك المغلوب لا محالة ما استمر على عناده وكفره المُعلن, فاشتط فرعون غضباً وأمر بالتنكيل بكل من يتبع موسى عليه السلام على دينه, وكان من أبرز مظاهر عناد فرعون لموسى عليه السلام وكفره بنبوته أن أمر باستمرار حَمَلات قتل أطفال بني إسرائيل الذكور, وذلك ليُخفي عن قومه الفراعنة الحقيقة التي ظهرت لهُ أخيراً وهي أن موسى هو الطفل الإسرائيلي المُنتظر الذي رأى في المنام أن هلاكهُ وزوال مُلكه يكون على يديه, قال تعالى: {وقال الملأُ من قوم فرعون أتذرُ موسى وقومهُ ليُفسِدوا في الأرض ويذَرَكَ وآلهتك. قال سنُقَتِلُ أبناءهم ونَسْتَحيِ نساءهم وإنا فوقهم قاهرون 127} الأعراف, وقد كان بني إسرائيل يتعرضون لحملاتٍ بشِعة من التطهيرٍ العرقي والقهرٍ والإذلال وسوء المُعاملة في مملكة الظالم فرعون قبل ميلاد موسى عليه السلام وبعثه, قال تعالى: {طسم 1 تلك آيات الكتاب المُبين 2 نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقومٍ يؤمنون 3 إنَ فرعونَ علا في الأرض وجعلَ أهلها شِيَعاً يستضعفُ طائفةً منهم يُذبِحُ أبناءهم ويستحي نساءهم. إنهُ كان من المُفسدين 4 ونُريدُ أن نَمُنَ على الذين اسْتُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين 5 ونُمَكِنَ لهم في الأرض ونُري  فرعون وهامان وجُنودهما منهم ما كانوا يحذرون 6} سورة القصص, وكان السبب الرئيسي لبعث موسى وأخاهُ هارون عليهما السلام هو تخليص بني إسرائيل من قبضة فرعون وقهره وتعذيبه وإخراجهم بعيداً عن مملكته, قال تعالى: {فَأتِيَا فرعون فقولا إنا رسولا رب العالمين 16 أن أرْسِلْ مَعَنا بني إسرائيل 17} سورة الشعراء, ولكن فرعون وقومهُ رفضوا مطلب موسى وهارون عليهما السلام, لأنهم كانوا يستخدمون بني إسرائيل في حقولهم وصناعاتهم وبيوتهم بأثمانٍ زهيدة ونظامٍ إقطاعي, ومن الصعب عليهم أن يجدوا قوماً غير بني إسرائيل يستطيعوا تسخيرهُ بمثل تلك الشروط الاستعبادية, وأمرَ فرعون بردع كل من يُبدي ولائه لموسى ورغبتهُ في الخروج معه من سجن فرعون.

لطيفة: (جاء في بيان رسمي من حكومة ألمانية النازية على لسان قائد القوات الخاصة هاينريش هيملر الذي هو من هتلر بمنزلة هامان من فرعون ما مفادهُ: [أن السياسة الحكومية بتشجيع هجرة اليهود إلى مدغشقر ليتخذوهُ وطناً تُعتبر غير عملية في الوقت الحاضر بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية وأن ألمانيا تحتاج إلى الأيدي العاملة لتسيير عجلة الحرب]. ونلمَسُ في هذا البيان تشابه تام وكبير بين عدم سماح فرعون ووزيرهُ هامان لبني إسرائيل بالخروج من مملكتهما وبين عدم سماح هتلر ورجُلهُ الأول هيملر لليهود بالخروج من ألمانيا, وذلك لحاجة كل من المملكة الفرعونية والدولة الألمانية إلى اليهود من أجل استخدامهم كأيدي عاملة أو كمقاتلين ودروع بشرية في الحروب ضد أعداءهم) انتهى.  

من ناحيةٍ ثانية حاول فرعون إخراج موسى وهارون عليهما السلام وأتباعهم الأقوياء من مملكته, وذلك لإبعادهم عن بقية قومهم حتى لا يستمروا بإثارة فكرة الثورة على نظام فرعون وكسر حصاره الغاشم في نفوسهم, إلا أن فرعون كان يجِدُ نفسهُ مُرغماً على السماح لموسى بالبقاء في مملكته, لأن موسى عليه السلام كان هو الوحيد القادر على رفع صنوف العذابات الربانية التي كانت تنزل على فرعون وقومهُ, حيثُ كان فرعون يستدعي موسى عليه السلام لتخليصهُ وقومهُ من العذاب الذي حلَ بهم, وكان موسى عليه السلام يستفيد من هذه الفُرص في تجديد دعوته لفرعون بالإيمان برسالته والسماح لهُ بالخروج من مملكته بصُحبة قومه بني إسرائيل, وكان فرعون يَعِدُ موسى بتنفيذ مطالبه في حال استطاع دفع البلاء الذي نزل على الشعب الفرعوني خاصةً والجزء الفرعوني من الأرض التي كانت تحتضن بني إسرائيل أيضاً, وبعد أن يدعي موسى عليه السلام ربه برفع العذاب عن قوم فرعون, كان فرعون ينكُث بوعوده لموسى ويُؤجل خروجهُ وبني إسرائيل من مملكته إلى أجلٍ غير مُسمىً, قال تعالى: {ولما وقعَ عليهم الرِجزُ قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهِدَ عندكَ, لئن كشفتَ عنا الرجزَ لنُؤْمِنَنَ لك ولنُرْسِلَنَ معك بني إسرائيل 134 فلما كشفنا عنهم الرجزَ إلى أجلٍ هم بالغوهُ إذا هم ينكثون 135} الأعراف.

وبعدَ أن تكرر سيناريو كذب فرعون وقومه على موسى وقومه في جميع الآيات التي ابتلاهم اللهُ بها وساعدهم موسى في رفعها عنهم, حانت ساعة الصفر وجاء دور البلاء العظيم والطَامةَ الكُبرى لفرعون وجُنده والتي لن ينفعهم بعدها إيمانهم بالله الدَيان, وعاقب الله فرعون وآلهِ عقاباً أبدياً لا خروج لهُم منه في الدُنيا وفي جهنم وبئْسَ المصير, ونَجَا اللهُ موسى عليه السلام ومن معهُ من عباده المُستضعفين وفتحَ عليهم بعد ذلك فتحاً مُبين, واسكنهم في الأرض المُباركة فلسطين بين مشارق الأرض ومغاربها, وجعلهم عِبرة لجميع عَباد الله الصابرين, قال تعالى: {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين 136 وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها, وتَمت كلمةُ ربك الحُسنى على بني إسرائيل بما صبروا, ودمرنا ما كان يصنعُ فرعون وقومهُ وما كانوا يعرِشُون 137} الأعراف.
قال الحسن البصري وقتادة في قوله: {مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} يعني الشام. وهي على وجه الخصوص أرض فلسطين لكونها جسر العبور الحضاري والتاريخ بين أهل الشرق والغرب, ولأنها الحلقة الأولى حول مركز البركة الربانية لقولهِ تعالى في أول سورة بني إسرائيل: {المسجد الأقصى الذي باركنا حولهُ}, وهي الأرض التي باركها الله وكتبها للمؤمنين من بني إسرائيل ومَن بعدهم من الأُمم المُؤمنة وأمرهم بدخولها وإقامة شرائعهُ وعبادتهُ فيها, وجاء هذا الأمر على لسان كليمهُ موسى عليه السلام: {يا قوم ادخلوا الأرض المُقدَسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين 21} سورة المائدة.

وتتشابه هاتان الآيتان (136-137) من سورة الأعراف مع الآيتان (103-104) موضوع البحث من سورة بني إسرائيل, حيثُ جاء في الآيتان الأوليان (103 الإسراء, 136 الأعراف)  خبر انتقام الله من الطاغية فرعون ومن معهُ من الذين كانوا يعذبون الضُعفاء من بني إسرائيل, وجاء في الآيتان التاليتان لهما خبر إيراث وإسكان المُستضعفين من بني إسرائيل في الأرض المُباركة في فلسطين, وقد جاء ذكر الأرض المُباركة واضحاً مُباشراً في الآية 137 من سورة الأعراف, بينما جاء ذكرها وتحديدها باطناً وغير مُباشر في الآية 104 من سورة الإسراء,  إلا أن الآية 137 من سورة الأعراف وضحت لنا المعنى الأكثر تحديداً للأرض المذكورة في آية سورة الإسراء, وذلك أن القرآن الكريم عبارة عن نسيج رباني مُتكامل ومُتناسق من الآيات التي يُفسر بعضهُا بعضاً, وأفضل تفسير لِما غَمض من معاني آيات القرآن هو تفسيرها بآيات القرآن الأخُرى المُشابهة لها والمُرتبطة بها, وإضافةً إلى أن الآية 137 من سورة الأعراف قد فسرت المقصود المُحدد من الأرض في الآية 104 من سورة الإسراء, فإن الآية 104 نفسها وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار ما وقع من أحداثٍ جِسَام في هذا الزمان متمثلة بعودة اليهود إلى أرض كنعان, تكون قد حددت وبشكلٍ قطعي ماهية الأرض التي سكنها بني إسرائيل, ونجدُ هذه الحقيقة مسطورة في الشق الثاني من الآية في قوله تعالى: {.. فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفاً 104}, [قال الجوهري‏:‏ اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال‏:‏ جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏جئنا بكم لفيفا‏} أي مجتمعين مختلطين‏‏.‏ وقال الكلبي‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏}‏ يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء] تفسير القرطبي‏.‏

وقد تحقق هذا الوعد الآخر في هذا الزمان وجاء اليهود إلى فلسطين المُباركة على شكل هجرات مُتفرقة من كثيرٍ من القارات والبُلدان, وغلبوا على جميع مُدن وقُرى فلسطين حتى صارت دولتهم حاجباً مانعاً لأبناء الإسلام من دخول ثاني بيتٍ وُضع في الأرض بعد المسجد الحرام, وكما وعد الله جَلَت قدرته اليهود بالعودة في أرذل عُمر هذه الحياة الدنيا إلى أرض الجُدود وإمدادهم بالمال والجُنود, فقد وعد عبادهُ المُؤمنين أيضاً بالعودة بعد انقطاع إلى أرض فلسطين وليدخلوا المسجد الأقصى ويحجوا إليه كما دخلهُ سيف الله والفاروق وصلاح الدين, ونجدُ هذه الإشارة الإيمانية والبِشارة الربانية واضحةً جلية في الآية السابعة من سورة الإسراء, التي ذكر اللهُ فيها وعدهُ الآخر من قضاءهُ على بني إسرائيل في اللوح المحفوظ, والذي أنزلهُ عليهم في توراة موسى ثم نَسَخهُ عليهم بقوله{وإن عدتم عُدنا} في قرآن مُحمد عليه وعلى جميع النبيين أفضل الصلاة والتسليم, قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا 7}, وقد شرحتُ هذا القضاء والوعود الربانية بالتفصيل في بحثي السابق: (قضاء الله على بني إسرائيل بأقوال الأئمة والدليل).

وبعد أن ارتسمت و وضَحَت لنا صورة هذه الأرض التي سكنها بني إسرائيل في زمانهم الأول وهذا الوعد الآخر الذي عاد فيه اليهود إلى الاجتماع من جديد في تلك الأرض, ننتقل إلى الجانب الأهم والذي يُمثل شريان هذا البحث وهو : كيف كانت رحلة اليهود إلى أرض فلسطين في كلتا المرتين المذكورتين في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وقُلنا من بعدهِ لبني إسرائيل اسكُنُوا الأرضَ فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفاً 104} ؟
كما ذُكر في هذه الآية من سورة الإسراء وغيرها من آيات القرآن الكريم, فقد كانت الأرض المُباركة فلسطين هي المَكرُمة الربانية لبني إسرائيل بعد تعرُضهم للعذاب الأليم في أرض الفراعنة, وعلى نَسِق ٍ مُماثل فقد كانت أرض فلسطين هي المَكرُمة الأوروبية لليهود بعد تعرضهم للعذاب الأليم في أرض الأوروبيين, وإذا كان الملك فرعون هو أعظم رموز تلك المأساة العظيمة التي مرت على بني إسرائيل في مصر, فإن الزعيم النازي هتلر يُمثل أعظم رموز المأساة العظيمة التي مرت على اليهود في أوروبا عامةً وألمانيا خاصةً.

وقد كان مصير فرعون وجنوده مُشابهاً لمصير هتلر وجيشه, فأما فرعون وجنده فقد غرقوا في بحرِ أكبر كمين عرفهُ التاريخ بإعدادٍ من الله المتين, وأما هتلر وجيوشه فقد سقطت حصونهم وخسروا مواقعهم بمواجهة جيوش المُتحالفين, وانتحر القائد هتلر بعدما حاصرهُ الحلفاء في مدينة برلين.

انقلاب الموازيين
لقد تبين لنا مما سبق مقدار المُعاناة التي لحقت ببني إسرائيل واليهود في بلاد الفراعنة والنازيين, ولكن ما الذي فعلهُ اليهود بعد أن خرجوا من أرض فرعون هاربين, ومن بلاد النازيين متوجهين إلى أرض فلسطين ؟ إن جواب هذا السؤال يوضح لنا سلوكاً من الإنكار والجحود أبداهُ اليهود مقابل نعمة الله عليهم بنجاتهم وإغراق فرعون ومن معهُ من الجنود, فبدلاً من شكر الله على منته العظيمة عليهم أقبل اليهود على اتخاذ إلهً آخر غير الله الواحد المعبود, قال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوْا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم. قالوا يا موسى اجعل لنا إلَهاً كما لهم ألهة. قال إنكم قومٌ تجهلون 138.. واتخذ قوم موسى من بعدهِ من حُليهم عجلاً جسداً لهُ خُوار. ألم يروْا أنهُ لا يُكلمهم ولا يهديهم سبيلاً. اتخذوهُ وكانوا ظالمين 148} الأعراف.
ومن الناحية الثانية فقد تحول اليهود بعد أن منحهم الأوروبيين أرض فلسطين من مُعذَبين إلى جلادين, وأنزلوا بشعب فلسطين صنوفاً من أعمال القمع والتهجير والتقتيل, وللأسف الشديد فإنه ورغم أن هذه المجازر الإسرائيلية حقيقة ملموسة وواضحة يشاهدها العالم ليلاً ونهاراً بالصوت والصورة, ولا يوجد مجال للطعن والتشكيك فيها على غِرار (الهولوكست), إلا أن قيادات هذا العالم لم تصل بعد إلا صيغة قرار حاسم ومُلزم ومدعوم يُخرج الشعب الفلسطيني من تحت سياط الجلاد الصهيوني, ولعل السبب في ذلك هو أن اليهود قد لبسوا الثوب الفرعوني الذي لن يُأذن لأحدٍ بنزعهِ عنهم إلا بالأمر الرباني.

وكما جاء في كتاب الله فإن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض, ولعل هذا يُبرر المُعاونة المثالية للأوروبيين والأمريكيين لليهود على حساب الفلسطينيين, قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنهُ منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين 51} المائدة. أولياء: تُؤاخونهم وتستنصرونهم.

و أما المسلمين من أهل فلسطين وغيرها فلا نجاة لهم إلا بسواعدهم وبتوفيق ونصرِ رب العالمين لهم, قال تعالى:{إنما وليُكم الله ورسولهُ والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون 55 ومن يتولَ الله ورسولهُ والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون 56} المائدة. .
إن الدلائل على حالة انقلاب الموازيين التي وصل إليها الإسرائيليين كثيرة, ويكفي شاهداً على ذلك أنهم تحولوا من شعب الله المُختار إلى جاحدين بالأنوار وكافرين بما أنزلهُ العزيز الجبار على قلب النبي المُختار محمد صلى الله عليه وآله الأخيار.

وقد وجدتُ شاهداً لطيفاً على هذه الحالة اليهودية العكسية في معنى كلمة (Zeal) الإنجليزية والتي تعني (حماسة), فإذا رجعنا إلى القواميس الكبيرة مثل قاموس (المورد) إنجليزي – عربي, وتحديداً الطبعة السابعة 1974, للمؤلف : منير البعلبكي, فإننا نجدُ أسفل كلمة (Zeal) كلمة (Zealot) وهي الصفة واسم الفاعل منها, ومعناها (المُتحمس وبخاصة: الوطني المُتعصب), وهذا هو الخيار الثاني لمعنى هذه الكلمة في القاموس, وأما الخيار الأول فقد كان على النحو التالي: (1): الزَيلوت: [واحد من طائفة يهودية قديمة عُرِفت بمقاومتها الشديدة للسيطرة الرومانية على فلسطين].
والمُفارقة العجيبة هي أن حركة المقاومة العنيدة للدولة اليهودية في فلسطين في هذا الزمان قد اتخذت لقب ذلك اليهودي المُقاوم للرومان اسماً لها (حركة حماس).

وهكذا فإن ما كان ضد الشعب اليهودي في سالف العصر والزمان صار معهم, وما كان منهم ومعهم صار ضدهم, فقد صار لليهود في هذا الزمان مُلك فرعون وهامان, وصار ضدهم رُسل الله وأئمة القرآن وأولئك (الزَيلوت) المقاومين الشُجعان, وعلى اليهود أن يتفهموا موقف حركة حماس في مقاومتها الشديدة وعصبيتها الوطنية في زمان حملها للرسالة السماوية, تماماً كتفهمهم لمقاومة تلك الطائفة اليهودية التي وقفت في وجه الرومان في زمان حملها للرسالة السماوية.  
قال تعالى : {ولا تحسبنَ الله غافلاً عَمَا يعملَ الظالمون. إنما يؤخرهم ليومٍ تشخصُ فيه الأبصار 42 مُهطعين مُقنعي رؤوسهم لا يرتدُ إليهم طَرفُهم وأفئِدتُهم هواء 43 وأنذرِ الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخِرنا إلى أجلٍ قريب نُجب دعوتك ونتبع الرُسل. أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال 44 وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبينَ لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال 45 وقد مكروا مكرَهم وعندَ اللهِ مكرُهم وإن كان مكرُهم لتزول منهُ الجبال 46 فلا تحسبنَ الله مُخلف وعدهِ رُسله. إن اللهَ عزيزٌ ذو انتقام 47} سورة إبراهيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحابته والتابعين.

مراجع البحث:
- كتاب مختصر تفسير ابن كثير.
- موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

مواضيع ذات صلة على هذا الرابط:

قضاء الله على بني إسرائيل بأقوال الأئمة والدليل ج3 


* نُشر لأول مرة في مدونة المسبار السحري بتاريخ 27-2-2009
فكرة وإعداد: م.وليد القراعين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق