الخميس، 14 فبراير 2013

غاية المرام من كنية وكرامة المهدي عليه السلام



بسم الله الرحمَن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلهِ الطيبين, وصحابته المُنتخبين, وعلى من تبعهُم بإحسان ٍ إلى يوم الدين.
أما بعد ؛ قال تعالى: {ولا يُنبئك مثلُ خبير}[فاطر: 14].
على غرار ما قمتُ بإيضاحهِ من مقاصدٍ خفية وراء نِسبة المهدي عليه السلام إلى آل البيت الكِرام والحضرة النبوية في مقالي السابق: (إمام الأمة على هامش أهل الهمة), وكذلك أسرار تسميته ولقبه وترتيبه في الإمامة في مقال: (صرير الأقلام في اسم وإمامة صاحب الزمان), فإني سأعمل في هذا المقال على إضافة معلومة جديدة وخبرٍ هام مرتبط بكنية الإمام المهدي (عليه السلام), بالإضافة إلى فقرة أخرى تتحدث عن بعض الكرامات التي يؤيد الله بها الإمام المهدي, مع بيان جانباً من المقاصد الخفية المرتبطة بهذه الكرامات والمنح الربانية, مُستعيناً في شرح هذه المسائل وبيانها بالقرآن والأثر والقياس والنظر, راجياً من الله التوفيق والسداد بالقول والعمل.

وفي نطاق غوصنا في أعماق مسألة الإمام المهدي المنتظر, فإنه وللأسف فقد شاعت عند العامة وحتى العلماء في هذا الزمان أخبارٌ وأقوال عن الإمام المهدي عليه السلام بعضها خاطئ وبعضها لا أصل لهُ, وذلك كاعتقاد بعض الناس بأن المهدي المنتظر لا يخرج حتى تفنى التقنيات الحديثة ويرجع الناس إلى حياتهم الأولية, إلا أنهُ لا يوجد أي حديث صحيح أو ضعيف بهذا المعنى, بل الوارد هو أن الله يؤيد المهدي بعلوم الدنيا والدين وأسبابهما, والنعمة التي تنعُمها الأمة في زمان المهدي ولم تنعُم مثلها أمةً من قبل, إنما هي بإحدى أبعادها تتجلى في هذه الثورة المُذهلة في علوم الدنيا ووسائلها, وفي استخراج ما في الأرضِ من كنوز وثروات وتسخيرها لمصلحة الإنسان, والناس في مثل هذا الزمان هم أحوج ما يكونون إلى خروج رجلٍ مثل المهدي عليه السلام, وذلك لما تسبب به هذا التطور الحضاري المُذهل من فتنةٍ للناس في دينهم, حيث صارت أمور الدنيا وملاذها وترفها هي الشغل الشاغل لكثيرٍ من الناس, وصارت هذه التقنيات الحديثة أداةً فاعلة في أيدي شِرار الخلق لفرض سيطرتهم على بُسطاء الناس وضعفائهم واستغلالهم, هذا عدا عن المخاطر البيئية العظيمة التي تهدد حياة الناس وتنذرهم بعواقب كارثية وخيمة, وذلك إذا ما استمروا في إهمالهم وتبذيرهم وعدوانهم في استخدام طاقات الأرض, وأيُ مهديٍ وأيُ مسيحٍ ينتظرهم الناس بعد حلول الكارثة وفناء هذه الحضارة التي هي حصيلة تجارب البشر منذ هبوط أبيهم آدم وزوجتهُ حواء على الأرض , وإنما هي أنفاسٌ قليلة تلفظها الدنيا قبل أن تحل القيامة الكُبرى عليها, فلا تُطِيلوا الأمل ولا تَغُرَنَكم الحياةُ الدنيا ولا يَغُرَنَكم باللهِ الغَرور.
قال تعالى: {يا أيُها الناس اتقوا ربكم واخشوْا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولدهِ ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً. إن وعد الله حق, فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغَرور 33 إن الله عندهُ علمُ الساعة ويُنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام, وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً, وما تدري نفسٌ بأيِ أرضٍ تموت. إن الله عليمٌ خبير 34} سورة لقمان.

المهدي أبا عبد الله
قال تعالى: {تبارك الذي نَزَلَ الفرقان على عبدهِ ليكون للعالمين نذيراً 1 الذي لهُ مُلك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن لهُ شريكٌ في المُلك وخلق كلَ شيءٍ فقَدَرَهٌ تقديراً} سورة الفرقان.
وقال جل في علاه: {إليه يُردُ علم الساعة. وما تخرجُ من ثمراتٍ من أكمامها وما تحملُ من أُنثى ولا تضعُ إلا بعلمهِ. ويوم يُناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد 47} سورة فُصلت.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو لم يبقى من الدنيا إلا يومٌ واحد , لبعث اللهُ فيهِ رجُلاً اسمهُ اسمي, وخُلْقُهُ خُلقي , يُكنى أبا عبد الله } . أخرجهُ الحافظ أبو نعيم في (صفة المهدي).
إن لكلِ كُنيةٍ يُكنى بها الإنسان قصة وسبب ونَسب, فما هو يا ترى سرُ تَكني إمام آخر الزمان المهدي عليه السلام (بأبي عبد الله)؟!
إن لتكني المهدي عليه السلام ڊ ِ(أبي عبد الله) دلالة كبرى وسرٌ عظيم, يكمنُ في قيام الإمام المهدي بمقام الأب من النبي الكريم عيسى ابن مريم (عليهم صلوات الله وسلامه), وذلك أن المسيحُ عيسى ابن مريم (عليهما السلام) هو (عبد الله) كما عَرَف عن نفسهِ في القرآن, قال تعالى: {فأشارت إليهِ, قالوا كيف نُكلم من كان في المهد(ي) صبياً 29 قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً 30} سورة مريم.

عن أبي هريرة , رضي الله عنه, قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {كيف أنتم إذا نَزَلَ ابنُ مريم فيكم, وإمامُكُم منكم} أخرجهُ الإمامان في (صحيحيْهما).

وقد أخرج أئمة الحديث عدة روايات في نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام في نُصرة الإمام المهدي وفي صلاتهُ خلفهُ ومُبايعته, وفي أن عيسى عليه السلام يرث مُلك المهدي ويليه في إمامة المسلمين, وكأن المهدي هو بمثابة الوالد الذي لم يُولد المسيح (عليهما السلام) بنطفةٍ منه, قال تعالى: {ووالدٍ وما ولد 3} سورة البلد.

غلاماً يحيا
قال تعالى: {يا زكريا إنا نبشرك بغُلامٍ اسمهُ يَحيى لم نجعل لهُ من قبلُ سَمياً 7} سورة مريم.
إذا كان اللهَ قد بشرَ زكريا عليه السلام بغُلامٍ اسمهُ يَحيى, فإن المهدي عليه السلام مُبشرٌ بغلامٍ هو بالفعل يَحيى, وذلك أن الله تبارك وتعالى سوف يُحيي عيسى ابن مريم ويُنزلهُ إلى الأرض غوثاً لأهل الإيمان, بعد أن توفاهُ ورفعهُ إلى السماء قبل أكثر من 2000 سنة من الزمان, وفي الحقيقة فإن عيسى عليه السلام حيٌ في السماوات مع من توفاهم الله من الأنبياء والصالحين والشهداء المقبولين, وجميع هؤلاء القوم المؤمنين (عليهم صلاة الله وسلامه ورضوانه) أجسادهم مدفونة في الأرض وآجالهم وأرزاقهم مُستوفية في الدنيا, باستثناء المسيح عيسى ابن مريم الذي يرد الله عز وجل روحه إلى جسده المحفوظ في مستودعهِ في السماء, ثم يبعثهُ إلى الدنيا ليستكمل رزقهُ وأجلهُ ورسالتهُ فيها وهذا هو إحياؤه, قال تعالى: {والسلامُ عَلَيَ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعثُ حياً 33} مريم. وقد سبق أن شرحتُ هذه المسألة بتفصيلٍ أكثر في مقال (عجائب السلام على عيسى عليه السلام).

قال تعالى: {يا أيُها الناس اتقوا ربكم واخشوْا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولدهِ ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً. إن وعد الله حق, فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغَرور 33 إن الله عندهُ علمُ الساعة ويُنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام, وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً, وما تدري نفسٌ بأيِ أرضٍ تموت. إن الله عليمٌ خبير 34} سورة لقمان.

عن حذيفة بن اليمان , رضي الله عنهُ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يلتفت المهدي, وقد نزل عيسى ابنُ مريم كأنما يقطُرُ من شعره الماءُ, فيقول المهديُ: تقدم وصلِ بالناس. فيقول عيسى ابنُ مريم: إنما أُقيمت الصلاةُ لك.
فيُصلي عيسى خلفَ رجُلٍ من (ولدي), فإذا صُلِيت قام عيسى حتى جلسَ في المقام, فيُبايعهُ} وذكر باقي الحديث. أخرجهُ الحافظ أبو نعيم في (مناقب المهدي) (1).
وعن كعبٍ الأحبار , رضي الله عنه, قال: {يُحاصر الدجال المؤمنين ببيت المقدس, فيُصيبهم جُوعٌ شديد, حتى يأكلوا أوتار قِسِيهم من الجوع, فبينما هم على ذلك, إذ سمعوا صوتاً في الغَلَس, فيقولون: إن هذا لصوتُ رجُلٍ شبعان.
قال : فينظرون, فإذا عيسى ابنُ مريم.
قال: وتُقام الصلاة فيرجعُ إمام المسلمين المهدي, فيقول عيسى: تقدم فلَكَ أُقيمت الصلاة. فيُصلي بهم ذلك الرجل تلك الصلاة, ثم يكون عيسى إماماً بعد} أخرجهُ الحافظ أبو عبد الله نعيم بن حماد, في كتاب (الفتن).  

سادة الزمان وخاتمي الأديان
قال تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهركِ واصطفاكِ على نساء العالمين 42 يا مريم اقنُتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين 43 ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك. وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيُهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون 44 إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يُبشرك بكلمةٍ منهُ اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين 45 ويكلم الناس في المهدِ وكهلاً ومن الصالحين 46 قالت ربِ أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشر, قال كذلك الله يخلقُ ما يشاء. إذا قضى أمراً فإنما يقولُ لهُ كن فيكون 47} آل عمران.
 وكما أن الله جل في عُلاه قد مَنَ على مريم ابنة عمران (عليهما السلام) بأن  وهب لها غُلاماً زكياً بكلمةٍ منهُ دون لقاح الذكور, ليكون آيةً على اصطفائها وطُهرها وتفضيلها على نساء العالمين, فإنهُ جَلَ في عُلاه سيُنعِمُ على المهدي عليه السلام بنزول ذات الغُلام عيسى ابن مريم عليهما السلام, ليكون آيةً على اصطفاء المهدي وصدق ولايته وفضلَهُ على أئمة المسلمين, وليكون المسيحُ ابن مريم نِعْمَ السَنَدُ والخَلَفُ والوريث للإمام المهدي (عليهم السلام جميعاً), وهكذا فإن خير أُم ٍ مريم ابنة عمران قد حملت وأنجبت وربَت خير غُلام عيسى (عليهما السلام), وليكون عوناً وامتداداً لخير إمام المهدي (عليه السلام) في إنقاذ البشرية وإخراجها من هاوية دينها ودنياها في آخر الزمان.

وكما أن مريم ابنة عمران هي سيد نساء الزمان الذي خُتمت به الديانة اليهودية وهي عهدُ موسى, فإن الإمام المهدي هو سيد رجال الزمان الذي ستُختم بهِ الديانة الإسلامية وهي عهدُ محمد (عليهم الصلاة والسلام جميعاً), عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب , رضي الله عنه , قال : {قلتُ يا رسول الله , أمنا المهدي , أو من غيرنا ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : بل منا , يختمُ الله به الدين كما فتحهُ بنا} (2). 
وختم الدين لا يعني انتهاءه كما قد يظن البعض, ولكنهُ يعني اكتمال نور شرائعه وتحقُق غاياته وبلوغ مقاصدهِ منتهاها, فلا يزدادُ الأمر بعد هذه القوة والكمال إلا وهناً ونقصان, وهكذا إلى أن يُدرك الناس زمانٌ لا عهد لهم فيه بكتابٍ ولا إمام, وتجف الصُحف وتُرفع الأقلام, وعلى مثل هؤلاء البشر تقوم القيامة ويرث الله الأرض ومن عليها من الخلق والأنام.

قِسمة عيسى (عليه السلام)
إن مَثلَ المسيح عيسى بين أمهِ مريم والمهدي (عليهم السلام), وكذلك بين أُمتيْ اليهود والإسلام, كمَثلِ الحوت الذي انتفع به خَلقُ البحر والبر مُجتمعان.
قال تعالى: {وإذ قال إبراهيمُ ربي أرني كيف تُحي الموتى, قال أولم تُؤمن, قال بلى ولكن ليطمئن قلبي, قال فخُذ أربعةً من الطير فصُرهُنَ إليك ثم اجعل على كل جبلٍ منهُنَ جُزءاً ثُم ادعُهُنَ يأتينكَ سعياً. واعلم أن الله عزيزٌ حكيم 260} البقرة. فصُرهُنَ إليك: قطعهُنَ مُمَالة إليك.
قال ابن زيد: مرَ إبراهيم بحوت ميت, نصفهُ في البر ونصفهُ في البحر, فما كان في البحر فدواب البحر تأكله, وما كان منه في البر فدواب البر تأكله, فقال لهُ إبليس الخبيث: متى يجمع الله هذه الأجزاء من بطون هؤلاء؟ فقال إبراهيم عليه السلام:{ربِ أرني كيف تحي الموتى ..}من كتاب مختصر تفسير الطبري.

وإن انتقالُ عيسى (عليه السلام) من الحياة في زمان أمهِ مريم إلى زمان المهدي (عليهما السلام), يُمثل صورةً نادرةً من الامتزاج الحضاري والاجتماعي والثقافي بين بني الإنسان, ويُحقق غاية الرحمَن التي ذكرها سبحانهُ في آيات القرآن, قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليمٌ خبير 13} سورة الحُجرات.

أزواج الجنة
قال تعالى: {سبحان الذي خلقَ الأزواج كلها مما تُنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون 36} يس.

إن الكمال لله وحده سبحانه وتعالى الذي لا يعتريه نقص ولا يحتاجُ لأحدٍ من خلقه, وأما المخلوقات فبعضهم بحاجةٍ إلى بعض, وكلهم بحاجةٍ إلى خالقهم الواحد الأحد, وإن كانت المخلوقات ليست كاملة بذاتها إلا أنها تعيشُ في حالةٍ من التكامل فيما بينها, ونستطيع أن نلمس هذا التكامل والتآلف بين المخلوقات من خلال العلاقة بين الزوجين الذكر والأنثى, وهذا النوع من التكامل النفسي والجنسي نجدهُ في البش وغيرهم من المخلوقات والكائنات وحتى الجمادات, وهذا أمرٌ مُلاحظ ومعلوم علمياً وعملياً ولهُ شواهدهُ الكثيرة في الكون, قال تعالى: {ومن كل ِ شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذَكَرون 49} سورة الذاريات.  

وإن أول زوجين من البشر كانا أبوينا آدم وحواء (عليهما السلام), وعلى سُنتهم وفطرتهم كان الأزواج من ذريتهم إلى أن تقوم الساعة, {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات, والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} [آية 26,النور].
وإذا كان الله قد قَدَرَ لآدم (عليه السلام) وهو أول الخَلْق أن يكون لهُ زوجةً واحدة وهي أمنا حواء, فإن الله قد شَرَع لأبنائهِ وذُريته من بعده أن يعددوا يجمعوا بين أكثر من زوجة, وأن ينكحوا ما يشاءون من الإماء والجواري بحسب الظروف والسعة المالية والجسدية, وهذه الزيادة للرجل فيما أحلَ الله لهُ من النكاح تنسحبُ على الجنة التي يكون حظ المؤمن فيها من زوجات الحُور العين سبعين أو يزيد.
وفي العلاقة الزوجية الدنيوية قد تُبتلى المرأة أو الرجل على حدٍ سواء بمن ليسوا لهم أهلاً من الأزواج, أو بمن لا ينسجمون تماماً مع صفاتهم الخَلقية والخُلقية, كما قد يُبتلون بغياب نصفهم الآخر وتوأم روحهم من الأزواج والحرمان من لقاءه, وهؤلاء الأزواج هم الذين جَبلهم الله من طينةٍ واحدة كما جَبلَ آدم وخلق منه حواء, وكأنهم قد أُنشئوا من نُطفةٍ واحدة كونت مرةً الذكر وفي المرة الأخرى كونت الأنثى, وكما يقول المثل المصري المشهور: (فولة وانقسمت نصفين), قال تعالى: {وأنهُ خلق الزوجين الذكرَ والأنثى 45 من نُطفةٍ إذا تُمنى 46} سورة النجم.
ومن لم يكُن محظوظاً من الأزواج في الدنيا بمعرفة أو لقاء نصفهُ الآخر الأقرب إلى نفسه, فإن الله الجامع سبحانهُ وتعالى يجمعهُ به في الآخرة, {ربنا إنك جامعُ الناس ليومٍ لا ريب فيه إن الله لا يُخلف الميعاد 9} آل عمران. فأما المؤمنين من الأزواج فإن اجتماعهم يكون في جنات النعيم, {إن أصحاب الجنة اليوم في شُغلٍ فاكهون 55 هم وأزواجهم في ظِلالٍ على الأرائك متكئون 56} سورة يس. وأما الكافرين فإن اجتماعهم يكون في نار الجحيم, {هذه جهنم التي كنتم توعدون 64 اِصْلوْها اليوم بما كنتم تكفرون 65} يس.
واليوم الآخر هو يوم الله يقضي فيه بين عباده في كافة شؤونهم الكبيرة والصغيرة, حتى في تلك التي تتعلق بزواجهم وميولهم العاطفي, يجمعُ ويُفرق, يمنحُ ويمنع, فهم سبحانهُ اعلمُ بمن خَلق وبيدهِ مفاتيح القلوب, قال تعالى: {وإذا النفوس زُوجت 7} التكوير. وإن مسألة الأزواج وأقدارهم في الدنيا والآخرة طويلة وحيثياتها كثيرة ولا تتسع لبيانها هذه العُجالة, وما أُريد أن أصِلَ إلى بيانهِ في هذا المقام هو أن مريم ابنة عمران والإمام المهدي (عليهم السلام) المُلتقيان والمشتركان في رعاية وولاية أمر المسيح عيسى (عليه السلام) يصلُحان أن يكونا زوجان من أزواج الجِنان, لم يكتب لهما الله الرحمَن اللقاء في الدنيا لحكمةً أرادها بأن يكون المسيح عيسى (عليه السلام) هو النبي الخاتم لعهد اليهودية والإسلام.
ورغم أن الذكر والأنثى زوجان متكاملان في تكوينهما إلا أنهما مختلفان في كيانهما, وقد عطف الله الرحمَن بخلقهِ للذكر والأنثى على الليل والنهار المختلفان, قال تعالى: {والليل إذا يغشى 1 والنهارِ إذا تجلى 2 وما خلق الذكر والأنثى 3 إن سعيكم لشتى 4} سورة الليل.
ويتجلى لنا هذا الاختلاف في شخصيْ أم عيسى مريم ابنة عمران, وصاحب الولاية الأبوية عليه الإمام المهدي (عليهم الصلاة والسلام), واللذان هما في سعيهما في هذه الدنيا شتان, كل واحدٍ منهما في زمان لا يلتقيان, كالشمسِ والقمر يُضيئان الأرض ويُنيرانها في نهارها وليلها دون أن يجتمعان, قال عز وجل:{والشمسُ تجري لمُستَقَرٍ لها. ذلك تقدير العزيز العليم 38 والقمرَ قَدَرناهُ منازِلَ حتى عادَ كالعرجون القديم 39 لا الشمسُ ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار. وكلٌ في فلكٍ يسبحون 40} سورة يس. 
وكما جاء عن علماء تفسير القرآن, فإن الشمس والقمر المذكورين في رؤيا يوسف (عليه السلام), هما كنايةً عن أبوه يعقوب وزوجتهُ (ليا) التي هي خالة يوسف وبمنزلة أمه (راحيل), وقد تولت (لِيا) مهمة رعاية وتربية يوسف (عليه السلام) بعد رحيل أختها (راحيل), قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ 4} سورة يوسف.

حظ الذكر والأنثى
قال تعالى: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [11,النساء]. أي أن الأنثى الواحدة ترثُ نصف ما يرث الذكر, فإذا كانت السيدة مريم هي الأنثى وكان الإمام المهدي هو الذكر (عليهما السلام), فإنه وتصديقاً لذلك فقد ورثت مريم ابنة عمران  وابنها المسيح (عليهم السلام) في زمانهما نصف كفر وعدوان اليهود, كما جاء في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله, قال الحواريون نحن أنصار الله. فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفة, فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين 14} سورة الصف. 
وعلى الجانب الآخر فإن المهدي عليه السلام سوف يرث في زمانه ظلم وعدوان اليهود كاملاً, والذي نراهُ في كل يوم ماثلاً أمام أعيننا على ارض فلسطين السليبة, قال تعالى : {ومن أظلمُ ممن منع مساجد اللهِ أن يُذكر فيها اسمهُ وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم}.
وسيكون الولد البار عيسى (عليه السلام) رمانة الميزان في إنهاء كافة مظاهر هذا الظلم والعدوان الذي انتصف في زمان أمه مريم ابنة عمران, واكتمل في زمان المهدي (عليه السلام), قال تعالى : {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا 7}.سورة بني إسرائيل. 
وفي الحديث الطويل الذي رواه أبي أمامة الباهلي:{...فيقول عيسى إن لي بك ضربة – يعني الدجال- لن تسبقني بها. فيُدركهُ عند باب لُدٍ الشرقي فيقتُلُه. ويهزم اللهُ اليهود , فلا يبقى شيءٌ مما خلقهُ الله يتوارى به يهودي إلا أنطقَ اللهُ ذلك الشيء , ولا حَجَرَ , ولا شجرَ , ولا حائط – إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق – إلا قال : يا عبد الله المسلم , هذا يهودي , فتعالَ اقتُلهُ...}. (3) 

 الشجرة الطيبة
قال تعالى: {ألم ترى كيف ضرَبَ اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ ًأصلُها ثابت وفرعُها في السماء 24 تؤتي أُكلها كلَ حينٍ بإذن ربها. ويضربُ الله الأمثالَ للناسِ لعلهم يتذكرون 25} سورة إبراهيم.
إن كلمة الله المسيح عيسى (عليه السلام) كالشجرة الطيبةِ التي لها أصول وجذور ثابتة وراسخة في الأرض, وهما: أمهُ مريم التي أنبتهُ الله في بطنها ثم أخرجهُ طفلاً, وأنشأهُ نشأةً حسنة في كنفها حتى شَبَ ونضجت ثمارهُ وأكل منها أهلهُ وقومهُ في أول زمانه, ثُم بعد ذلك رفع الله كلمتهُ الطيبة إلى السماء تطهيراً لها من رجس الكافرين, قال تعالى: {من كان يُريد العِزةَ فللهِ العزةُ جميعاً. إليهِ يصعدُ الكَلِمُ الطيب والعملُ الصالح يرفعُهُ. والذين يمكرون السيئات لهم عذابٌ شديدٌ, ومكرُ أولئك هو يبور 10} فاطر. ولتعود هذه الكلمة والشجرة الطيبة لتُؤتي أُكُلها وتُثمر وتُعَمر من جديد في حين وزمان جذرها الأبوي الإمام المهدي (عليهما السلام), بعد أن يأذن الله لها بالعودة إلى الأرض والاستقرار فيها إلى الأجل الذي قدرهُ لها, وهذا من عظيم تدبير الله وآياته الكبرى في هذا الكون.
قال تعالى: {واللهُ خلقكم من تُرابٍ ثم من نطفةٍ ثم جعلكم أزواجاً. وما تحملُ من أنثى ولا تضعُ إلى بعلمهِ. وما يُعَمر من مُعَمرٍ ولا ينقُصُ من عُمرهِ إلا في كتاب. إن ذلك على الله يسير 11} فاطر.  

في تَكَني المهدي بأبي القاسم
عن عبد الله بن عمر, رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {يخرج في آخر الزمان رجلٌ من (ولدي) , اسمهُ كاسمي , وكنيتهُ ككنيتي , يملأُ الأرض عدلاً , كما مُلئت جوراً} (4).
{كنيتهُ ككنيتي}: وفي هذا القول دلالة على محبة وتكريم النبي (عليه الصلاة والسلام) للمهدي ومُقاسمتهِ كنيته (أبا القاسم) معهُ, وهذا استثناء لم يكن لأحد من الناس قبل الحُجة المهدي,  حيثُ صح عنه (عليه الصلاة والسلام) أنهُ كره أن يتكنى الناس بكنيته من بعدهِ, كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنه قال: قال أبو القاسم (عليه الصلاة والسلام): {تسموا باِسمي ولا تكنوا بكنيتي}.
وكيف لا وقد جعل الله وليهُ المهدي عليه السلام محمد هذه الأمة في آخر عهدها, كما كان نبيهُ المصطفى (عليه الصلاة والسلام) مُحمدها في أول عهدها, والمؤمنين بعد عهد النبي (عليه الصلاة والسلام) في شوقٍ جارف لرؤيته ولقاءه, فمنهم من يلقاه ويراهُ ويُحدثهُ في حالة اليقظةً وهم خاصة الله من أولياءه, ومنهم من يراهُ في المنام وهم أصحاب القلوب الطاهرة والأخلاق الحسنة, ومن لم يتسنى لهُ شيئاً من ذلك فإنهُ يلتمس صورة حبيبه المصطفى (عليه الصلاة والسلام) وسيرتهُ في وجوه وسيرة ورثته من الأئمة والأولياء الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.   

في ما يظهر لهُ من كرامات في فترة ولايته
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, عليه السلام, قال: {تختلف ثلاث رايات, راية بالمغرب, وراية في جزيرة العرب, وراية بالشام, تدوم الفتنة بينهم سنة.
ثم ذكر خروج السفياني , وما يفعلهُ من الظُلم والجور.
ثم ذكر خروج المهدي, ومُبايعة الناس لهُ بين الركن والمقام.
ثم يسير بالجيوش حتى يصير بوادي القرى, في هدوءٍ ورفق, ويلحقهُ هنالك ابن عمهُ الحَسَني, في اثنا عشر ألف فارس, فيقول له: يا ابن عم أنا أحق بهذا الجيش منك, أنا ابن الحسن, وأنا المهدي.
فيقول لهُ المهدي عليه السلام: بل أنا المهدي.
فيقول له الحَسَني : هل لك من آية فأُبايعك؟
فيُومئ المهدي عليه السلام إلى الطير فيسقُط على يده, ويغرس قضيباً في بُقعة من الأرض , فيخضر ويورق.
فيقول لهُ الحسني : يا ابن عم هي لك} (5).

* {فيُومئ المهدي عليه السلام إلى الطير فيسقُط على يده, ويغرس قضيباً في بُقعة من الأرض , فيخضر ويورق}:
إن في هذه العبارة إشارة إلى أن الله يُسخر الطير والحديد للمهدي كما سخرها لداود ومن بعده لسليمان (عليهم السلام), قال تعالى: {ولقد آتينا داود منا فضلاً,يا جبال أوبي معه والطير, وألنا له الحديد 10} سبأ, وقال تعالى : {وورث سليمان داود, وقال يا أيها الناس عُلمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء, إن هذا لهو الفضل المُبين 16 وحُشر لسليمان جنودهُ من الجنِ والإنسِ والطير فهم يوزعون 17} سورة النمل.
وقد يكون في هذا القول أيضاً إشارةً مجازية إلى القوة والمنعة التي سيكون عليها جيش المهدي في مواجهة شياطين الإنس والجن, وإلى الكرامة الربانية التي سيمنحها الله لوليه المهدي (عليه السلام) وجندهُ لهزيمة أعدائهم, فيومئ المهدي عليه السلام إلى الطائر الحديدي (طائرة عدوه) فيسقط بإذن مُمسكهُ في الهواء تبارك وتعالى, قال تعالى: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافاتٍ ويقبضن. ما يُمسكُهنَ إلا الرحمَن . إنهُ بكل شيءٍ بصير 19} سورة المُلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏{إن الله تعالى قال‏:‏ ‏‏من عاد لي وليَّا، فقد آذنتهُ بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني، أعطيته، ولئن اِستعاذني، لأُعيذنه‏‏} ‏‏‏‏رواه البخاري‏‏‏. 
وكذلك فإن في هذه العبارة إشارةً إلى أن الله يرزق المهدي وأتباعه المؤمنين بلطيف إحسانه, كما رزق موسى وبني إسرائيل المتفرغين لعبادته وإقامة شريعته في الأرض بطائر السلوى دون جُهدٍ وعناءٍ في اصطياده, قال تعالى: {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المنَ والسلوى 80} سورة طه.

* {ويغرس قضيباً في بُقعة من الأرض, فيخضر ويورق} :
الواضح من ظاهر هذا القول أن الله القادر البديع يمنح المهدي القدرة على الإتيان بأفعالٍ خارقة للعادة كتلك التي أجراها على أيدي أنبيائه وأوليائه (عليهم سلام الله ورضوانه), لتكون له عوناً في تصديق دعوته وولايته وإظهار كرامته, وذلك كأن يغرس المهدي قضيباً من حديدٍ أو نحوه في بقعةٍ من الأرض, فيتحول هذا القضيب الميت إلى غُصنٍ أخضر مُورق بإذن الله.
وقد نستخلصُ من هذه العِبارة إشارة إلى الجهود التي سوف يبذلها الإمام المهدي من أجلِ نبذ العنف وإحلال السلام بين الأمم الشعوب المتناحرة, وذلك من خلال تسخيره لهذه الكرامة الربانية في غرس قضيب الحديد الذي قد يكون سيفاً أو بندقية أو نحوه من أسلحة القتل والتخريب في بقعةٍ من الأرض, فيتحول بإذن الله إلى نباتٍ ينتفع منهُ الناس ويستفيئوا ظلاله, وخيراً للناس من ملئ الأرض ببذور الرصاص وسقيها بدماء بعضهم بعضاً ظلماً وعدواناً, فلا يزدادون إلا أحقاداً وضياعاً في أمر دينهم ودنياهم, أن يبذروا ويزرعوا فيها ما ينفعهم ويكيفهم بأس معيشتهم وآخرتهم.  

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

المراجع:
- كتاب عقد الدرر في أخبار المنتظر.

الهوامش:
(1)- وأخرجه أبو القاسم الطبراني في (مُعجمه).
(2)- أخرجه جماعة من الحفاظ , منهم أبو القاسم الطبراني , وأخرجه نعيم بن حماد في نسب المهدي .الفتن لوحة 102 أ.
(3)- أخرجهُ الحافظُ أبو عبد الله ابن ماجة في (سُننه).
(4)- من كتاب عقد الدرر في باب اسمه وخُلقهُ وكنيته.
(5)- من كتاب عقد الدرر في أخبار المنتظر, الباب السادس, فيما يظهر لهُ من الكرامات في مدة خلافته.
  

*  نُشر لأول مرة في مدونة (ولي الدين والمسبار السحري) بتاريخ 24-5-2009
فكرة وإعداد: م. وليد أحمد القراعين







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق