الأحد، 17 فبراير 2013

كرامة سلام الإمام الرفاعي على خير الأنام


 بسم الله الرحمَن الرحيم

الحمد لله الذي نزَل الكتاب وهو يتولى الصالحين , والصلاة والسلام على السيد الأعظم أبي القاسم النبي الأمين , أشرف المرسلين , سيدنا ومولانا ونبينا وشفيعنا محمد حُجة الله على العالمين , وعلى آلهِ وأصحابهِ الطيبين الطاهرين , وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين , آمين.

أما بعد ؛ سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربهُ عن أدنى أهل الجنة منزلة فأجابهُ , ثم سألهُ قائلاً: ((.. فأعلاهم منزلة , قال : أولئك الذين أردت : غرستُ كرامتهم بيدي ، وختمتُ عليها ، فلم تر عينٌ ، ولم تَسمعْ أذنٌ ، ولم يخطرْ على قلب بشر)) ، ومصداقه في كتاب الله :{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } السجدة 17.

وثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- أنهُ قال: {ما من مُسلم يُسَلِم عليَ, إلا ردَ الله عليَ روحي فأرُد عليه}.

أحمد يا حبيبي سلام عليك .. يا عون الغريبِ سلام عليك

[ذكر الشيخ الجليل الكامل جامع المعالي والفضائل الإمام الهُمام قاسم بن محمد بن الحاج رحمهم الله في كتابه ِ (أم البراهين في تصحيح اليقين بإشارات الصالحين) ما نصهُ : إنَ قُطب الزمان السيد الجليل الشيخ الكبير السيد أحمد بن أبي الحسن الرفاعي الحسيني قدسَ الله سره العزيز , كان من أجل القوم إمكاناً وأتمهم أخلاقاً وإحساناً , وقد روى لنا الشيخ الجليل والهمام الفضيل أبو حفص عمر الفاروثي رحمهُ الله قال :
كُنا في مجلس الشيخ الكبير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي وحولهُ جماعة من فحول الأبطال وأكابر الرجال وهم يتحادثون في حضرة الشيخ بعلوم غريبة وأسرار عجيبة وهو جالس بينهم يرد جوابهم , فبينما هم كذلك إذ قام الشيخ الكبير السيد أحمد على قدميهِ كاشفاً رأسهُ وقال :{اللهُ أكبر الله أكبر. ظهر الحق وبان الصدق. نوديت من الحضرة العلية أن يا أحمد قم وزر بيت الله الحرام وزر النبي عليه السلام فإن هناك دعوة من الرسول يوصلها إليك} , فقال كل من في المجلس سمعاً وطاعة وأنشد بعضهم يقول في حضرة الشيخ:

مُرنا بأمرٍ فإنا لا نخالفه     وحد حداً فإنا عندهُ نقف

فتأهب للسفر فطلع معه جمٌ غفير ومحفلٌ كبير وساروا طالبين مكة المشرفة والمدينة المنورة , فلما وصلوا المدينة مدينة النبي (صلى الله عليه وسلم) وقف تجاه حجرة النبي عليه الصلاة والسلام وأنشد:

في حالة البعد روحي كنتُ أرسلها    تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت    فامدد يديك لكي تحظى بها شفتي

ثم قال : السلام عليك يا جَداهُ , فقال لهُ من داخل الحُجرة : وعليك السلام يا ولدي وانشق تابوت الرِسالة ومدَ يدهُ الشريفة (صلى الله عليه وسلم) فقبَلها وبايعهُ بيعة كليةً وأمرهُ بلبس الشاش الأسود , وأن يصعد على المنبر وأن يعظَ الناس , وقال لهُ ثانياً : لقد نفع الله بك أهل السماء وأهل الأرض وهذه البيعة متصلة بك وبذريتك إلى يوم القيامة. والحاضرون يشهدون بأبصارهم ويسمعونهُ بأسماعهم رضوان الله عليهم أجمعين , وكان ممن حضر في تلك السنة من الحجاج وشاهد ذلك بعينهِ من فحول الرجال سيدي حيوة بن قيس الحراني, وسيدي علي بن خميس, وسيدي عبد القادر الجيلاني وغيرهم قدس الله أسرارهم , وكان بقية من حضر من الناس تسعينَ ألفاً انتهى.

وقلت وفي هذه القصة بعد الكرامة من شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم- لسيدي أحمد بصحة النسب ما يكفي شرفاً وفخراً, ولا يخفى ما صرحَ به الإمام الصفوي في نزهتهِ في باب الزيارة من أن إنكار هذه الكرامة يؤدي إلى سوءِ الخاتمة والعياذ بالله لما فيهِ من إنكار معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم- وكرامة الولي قدس سره العزيز] (1).

وقد ذكر هذه الكرامة كثير من المؤرخين الثقات وفقهاء الإسلام , وقد ألفوا فيها الكتب المعتبرة , كالإمام السيوطي ولهُ كتاب (الشرف المحتم فيما منَ اللهُ بهِ على وليه السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنهُ , من تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم) , والإمام عبد الكريم الرافعي في كتابهِ (سواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين) , والعلامة محمود الألوسي في كتابه (الأسرار الإلهية في شرح القصيدة الرفاعية) , وغيرهم من مشاهير العلماء الكبار. 

قال تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني مُتوفيك ورافِعُكَ إلي ومُطهرُكَ من الذين كفروا وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة, ثُم إلي مرجِعُكم فأحكم بينكم فيما كُنتم فيه تختلفون 55} سورة آل عمران.
وقد وقعت هذه الكرامة الكبيرة للإمام الرفاعي الكبير في حَجِهِ الأول عام (555) هجرية, وكان عمرهُ حينها 43 عام , وأمضى سيد الأولياء أحمد الرفاعي بعد هذه البيعة المباركة (23) عام من عُمرهِ في خدمة العِلْم والدين وأُمة المسلمين حتى توفاهُ الله عن عمرٍ يُناهز (66) عام, مُشابهاً في ذلك سُنة جَده سيد الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قضى نحو (23) عام بعد بعثهِ الشريف في الدعوة إلى الله الواحد الأحد إلى أن اختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى, حيثُ كان عُمرهُ (عليه الصلاة والسلام) عند نزول الوحي عليه في غَار حِرَاء نحو (40) عاما , وكانت وفاتهُ عن عُمرٍ يُناهز (63) عام.

ومن اللطائف الرقمية, أننا إذا قمنا بحساب أعداد حروف اسم (أحمد) استناداً إلى قاعدة حساب الجُمل المشهورة بين المشتغلين بحساب الأوفاق, فإننا نجد في مجموع أعداد حروف (أحمد) إشارة رقمية تدل على تاريخ السنة الهجرية (555) التي حدثت فيها تلك المعجزة والخارقة المُحمدية, وتالياً طريقة حساب اسم (أحمد) بناءً على الرمز العددي لحروفه: [أحمد = أ: 1 + ح: 8 + م: 40 + د: 4 =53].
ويكمُن سر هذه الإشارة الرقمية في أن حاصل ضرب أرقام عدد اسم أحمد (53) يساوي مجموع أرقام عدد السنة الهجرية (555), [53= 3 * 5 = 15] , [555= 5 + 5 + 5 = 15], أي أن عدد حروف اسم أحمد (53) يُمثل (الثلاث خمسات) التي في عدد السنة الهجرية (555).
قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر, إن قرآن الفجرِ كان مشهوداً 78 ومن الليل فتهجد بهِ نافلةً لك عسى أن يبعثك ربُك مقاماً محموداً 79} سورة الإسراء.
ومن ناحيةٍ أُخرى فإن عدد اسم أحمد (53) يُمثل عدد أعوام الفترة ما بين ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهجرتهُ المُباركة التي كانت في العام الثالث عشر (13) بعد بعثه الشريف, وهذا يعني أن النبي (عليه وآله الصلاة والسلام) كان في مقام (الأحمدية) منذ ولادته وحتى هجرتهِ, ثم انتقل (عليه الصلاة والسلام) إلى مقام (المُحمدية) بعد هجرتهِ إلى قيام الساعة, ثم يبعثهُ الله في يوم القيامة المشهود المقام (المحمود) الموعود خالداً فيه أبداً.
وقد كانت جدتي مريم ابنة عيسى (رحمهما الله) تُنشدُ بيتاً جميلاً من الشعر بلغتها العامية في وصف هذه المقامات الثلاثة:

 أحمد مُحمد اسْمُو في السَمَا محمود .. بأيدو ثُريا تِضْوي على الجبالِ السُود .. سبحان مين حَنن الوالدة على المولود.
وباللغة الفصحى:
أحمد مُحَمد اسمهُ في السماء محمود .. بيدهِ ثُريا تُضيءُ على الجبال السُود .. سبحانَ منْ حَنن الوالدة على المولود.

 البِشارة الكُبرى
قال تعالى : {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدى اسمهُ أحمد .. 6} سورة الصف.
وكما بَشَرَ عيسى ابن مريم بميلاد وبعث نبي الإسلام (أحمد) المصطفى العدنان (عليهم الصلاة والسلام), فقد بشرَ الجدُ محمد (عليه وآله الصلاة والسلام) بميلاد حفيدهُ (أحمد) الرفاعي سيد الأولياء الكرام, حيثُ بشر النبي (خَال) سيدنا الرفاعي العارف الكبير الشيخ منصور الأنصاري بولادته, يقول السيد الشيخ منصور: [رأيتُ النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل ولادة ابن أختي السيد أحمد الرفاعي بأربعين يوماً في الرؤيا, فقال لي : يا منصور! أبشرك أن الله يعطي أختك بعد أربعين يوماً ولداً , يكون اسمهُ أحمد الرفاعي, مثل ما أنا رأسُ الأنبياء , كذلك هو رأسُ الأولياء,.. ] (2). 
وإذا قمنا بحساب الفترات الزمنية الفاصلة بين ميلاد روح الله عيسى ثم حبيبهُ محمد  ثم وليهُ أحمد الرفاعي (عليهم الصلاة والسلام) على التوالي, مُستخدمين التقويم الشمسي في حساب الفترة ما بين ميلاد السيد المسيح ومولد النبي محمد, والتقويم القمري في حساب الفترة ما بين مولد نبينا محمد ومولد الإمام أحمد الرفاعي (عليهم الصلاة والسلام جميعاً), فإننا نجد أن هذه الفترات تكاد تكون متساوية بعدد السنوات, مختلفة بوحدة القياس المستخدمة لحساب هذه السنوات, حيث أن الفارق الزمني في عدد السنوات الشمسية بين ميلاد عيسى ومولد محمد هو تقريباً (574) سنة, حيثُ اتفقت كتب السيرة على أن مولد النبي محمد كان في سنة (570م), وميلاد السيد المسيح (عليهما الصلاة والسلام) كان حقيقةً قبل هذا التقويم الميلادي بأربع (4) سنوات تقريباً باعتراف الباحثين القائمين عليه, قال تعالى : {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشيرٍ ولا نذير فقد جاءكم بشيرٌ ونذير. والله على كل شيءٍ قدير 19} سورة المائدة.
أي أن الله بعث محمد بعد مدة متطاولة من إرسال عيسى ابن مريم (عليهم الصلاة والسلام), [قال قتادة : كانت ستمائة سنة , ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة]. (تفسير ابن كثير).
وأما الفارق الزمني في عدد الأعوام القمرية بين ولادة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وولادة حفيدهُ السيد أحمد الرفاعي فإنهُ يبلغ نحو (565) عام, حيثُ كانت ولادة الإمام الرفاعي في عام (512) هجرية في أم عبيدة بواسط العراق, وبعد مرور نحو (565) عام على ولادة النبي العدنان (عليه وآله الصلاة والسلام).

وقد تُوفي الإمام أحمد الرفاعي عن عمرِ يُناهز (66 عاماً و 6 أشهر) قمرية , وهذا الرقم يُشكل ضِعف عُمر عيسى عليه السلام عندما توفاهُ الله ورفعهُ إليه وهو (33 سنة و 3 أشهر) شمسية, مع مُراعاة اختلاف التقويم المستخدم في حساب السنوات.
وتدلُنا هذه النصوص والحسابات على أن الإمام أحمد الرفاعي الكبير هو بمثابة انعكاس لِنور عيسى ابن مريم في أمة الإسلام (عليهم الصلاة والسلام), وقد أيَدَ اللهُ السيد أحمد الرفاعي بخوارق وكرامات الأولياء, كما أيَدَ عيسى ابن مريم المرفوع إلى السماء بعجائب ومعجزات الأنبياء (عليهم صلوات الله وسلامهُ جميعاً), ومن الحِكم الربانية في كون الإمام المُجدد أحمد الرفاعي على قلبِ عيسى ابن مريم, هو أن يكون علاج مرض الأُمة من جنس الداء الذي أصابها, حيثُ كانت الدولة الإسلامية في ذلك الوقت تتعرض لحملات صليبية شرسة تمخضت عن احتلال بيت المقدس وتدنيس المساجد ودُور العبادة فيه , وقد كان حَمَلت تلك الراية الصليبية المهزومة يُسَخِرون الدين باسم السيد المسيح (عليه السلام) من أجل تحقيق مطامعهم في الحصول على حُطام الدنيا وغنيمتها, لذا فإن الله أمدَ الإمام أحمد الرفاعي بمدد عيسى ابن مريم (عليهم السلام) ونوره الحق, الذي تم صدقاً وعدلاً وسرى في روح الأمة حتى تطهرت من هذا الدخيل المسيحي الكَذاب.

الرضيع الصائم
إن أخت سيدنا أحمد الرفاعي – قَدَسَ اللهُ سِره-  تقول عن رضاعته في رمضان: {إن السيد أحمد لم يشرب اللبن في نهار رمضان المبارك , فظننا أولاً أن في المُرضِع شيئاً يكرهه , وأبى أن يقبَل غيرَها منهُن , وأما في الليل فقد قَبِلَ المُرضِع , وشرب لبنها} (3).

نسبهُ الطاهر
هو الدُرة الوُسطى في سلسلة آل محمدٍ المُبجلة الكُبرى, وهو سليلُ تلك النسبة من الأشراف والأئمة الأعلام, الذين هم مصابيحُ الهداية وشموس الوصلةِ والولاية:
لولا بنو الزهراء ما عُرِفَ التُقى فينا .. ولا عَرفَ الهُدى الأقوام
وباختصار لذكر هذه السلسلة من الأبرار: هو سيدنا أحمد الرفاعي الكبير ابن السلطان علي بن يحيا المكي , ابن ثابت بن علي , ابن السيد أحمد المرتضى , ابن علي الأشبيلي, ابن السيد رِفاعة الحسن المكي (وقد سُمي الإمام أحمد بالرفاعي نسبةً إلى هذا الجد) , ابن المهدي ابن أبي القاسم محمد بن الحسن بن الحسين , ابن السيد أحمد الصالح ابن موسى الثاني , ابن إبراهيم المُرتضى , ابن السيد موسى الكاظم , ابن السيد جعفر الصادق , ابن السيد محمد الباقر , ابن السيد علي زين العابدين بن السيد الحسين , بن سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
وأم الإمام الحسين السِبط / سيدتنا البتول المرضية, السيدة فاطمة الزهراء النبوية, رضي الله عنها.

عن أُمِ سَلمة, رضي اللهُ عنها, قالت : سمعتُ رسولَ الله (صلى اللهُ عليه وسلم) يقول : {المهدي من عِترَتِي , من ولدِ فاطمة} رضيَ اللهُ عنها.
أخرجهُ الإمام النَسَائي في سُننه.

ولا جَرمَ أن السيد الرفاعي هو أحد الأولياء المهديين,وأنهُ من نسل فاطمة بنتُ سيد المرسلين.

وعن حذيفة رضي الله عنهُ قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَرَنا بما هو كائن , ثم قال : {لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد لطَولَ اللهُ عز وجل ذلك اليوم , حتى يبعثَ فيهِ رجُلاً من ولدي اسمهُ اسمي}. فقام سلمان الفارسي , رضي الله عنه , فقال : يا رسول الله , من أي ولدك؟ قال : {هو من ولدي هذا} , وضرب بيده على الحسين عليه السلام. (4).
{لو لم يبقى من الدنيا إلا يومٌ واحد}: هذه العبارة تستخدم عند وصول الأمة لحالة من اليأس تكادُ لا ترى منها مخْرجاً.

وعن عبد الله بن مسعود , رضي اللهُ عنه , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لا تقوم الساعة حتى يَلي رجلٌ من آل بيتي , يواطىءُ اسمهُ اسِمي} أخرجهُ الإمام أحمد في مُسنده.
يُواطىءُ : يُشابهُ. واسم (أحمد) ولي الله هو أشبه الأسماء ڊِ (مُحمد) رسول الله.
والمعنى القريب لقولهُ عليه الصلاة والسلام: {لا تقوم الساعة حتى يلي رجلٌ من آل بيتي}, هو تلك الهجمة التتارية البشعة على العراق ودول الجوار بعد نحو قَرْن من بيعة وولاية الإمام الرفاعي رحمهُ الله, حيثُ أن الحُروب الطاحنة هي بمثابة قيامة بشرية مُصغَرة تُزلزَلُ فيها الأرض, ويَهلكُ فيها الخَلق الكثير, وتَجِفُ فيها الصُحف كما جففَ الَتتار الكُتب والمراجع العِلمية حرقاً وغرقاً, وقد كان للعراق وهي بلدُ الإمام أحمد الرفاعي نصيب الأسد من هذه الهجمة والزلزلة العظيمة.

فضلهُ ومنزلتهُ العظيمة
بحسب التوجيهات النبوية التي كان يُلقَنُها الإمام محمد مهدي الرواس عند رؤيتهِ عليه الصلاة والسلام , قال : {قُلت ُدُلني على الحق يا رسول الله. قال : القرآن الكريم فيه مطلُوبُك. قُلت : دُلني على الطريق إلى الله تعالى. قال : تمسك بولدي أحمد الرفاعي وتصل إلى الله تعالى, فهو سيد أولياء أمتي, بعد أولياء القرون الثلاثة, وأعظمهم منزلة, ولا يجيءُ مثلهُ إلى يوم القيامة غير سَمِيك المهدي بن العسكري (المهدي المنتظر), وكيف لا, وأحمد الرفاعي قطب أهل بيتي, وخزانةُ فقهي, وتِحفُ عِلمي وصندوقُ أذواقِ أحوالي} (5).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله، فجثى رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم ، وقربهم من الله، أنعتهم لنا جلهم لنا – يعني صفهم لنا, شكلهم لنا- فسُرَ وجه النبي (صلى الله عليه وسلم) بسؤال الأعرابي ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا يضع الله يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نوراً، وثيابهم نوراً، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون, وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (6).

وعن معاذ بن جبل, أن عمر - رضي الله عنهما- خرج إلى المسجد فوجد معاذاً عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : {اليسير من الرياء شرك ، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة, إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا ، وإن حضروا لم يُعرَفوا . قلوبهم مصابيح الدجى يخرجون من كل غبراء مظلمة} إسنادهُ صحيح (7).

تبحُرُهُ العِلمي
[حتى لقبهُ الناس ڊ (الكبير).  قال صاحب الرموز: لقبهُ الناسُ بالكبير, لدراسته ومهارته العلمية. كان يكشف عن الحقائق , ويأتي بالعجائب , ويُظهر الدقائق العلمية بما لا يخطر على بال أحد , فاشتهر بهذا اللقب الشريف , حتى صار جُزءاً من اسمه.
كانت لهُ يدٌ طُولى في التدريس , ومهارة عظيمة في الإفهام والتفهيم , يحلُ المعضلات , ويأتي بما لم يأتِ به أحد غيرُه من الأدلة القوية والبراهين القاطعة على مذهبهُ ومسلكه. يتكلم سيدنا الرفاعي في درسه والتلامذة ومن حضر فيه يلقون إليه سَمعْهم مبهوتين بالتعجب من أسلوبه البديع الفريد.
يقول سِبطهُ السيد عزُ الدين أحمد الصياد الرفاعي عن أسلوب كلامه : .. فإذا ابتدأ الكلام أخرس المتكلمين , وأبهتَ الجاحدين , وحيرَ العارفين , وأطربَ السالكين , وأبكى الخاشعين , وأتى بجوامع الكَلِم , وراثةً عن جده (صلى الله عليه وسلم).
قال تعالى : {وإنكَ لَتُلَقَى القرآن من لدُنْ حكيم عليم 6} سورة النمل. ولا شكَ أن سيدنا الرفاعي كان عَلاَمَة كبيراً في جميع العلوم العقلية والنقلية , ولكنَ اللهَ حَبَاهُ وخصهُ وأفاض عليه بالعلم اللَدُني كذلك , فهو عالم رَبَاني لهُ مكانتهُ في العلوم الوهبية.
يقول صاحب الرموز: ألفَ سيدنا الرفاعي (662) كتاباً , فُقِدَ معظمها إما بواقعة التًتًر أو بالتلف , ومن مؤلفاته القيمة : [البَهجة , تفسير سورة القدر , السر المَصون , البرهان المُؤيد] (8).

وينزلُ شيخ الإيمان الإمام أحمد الرفاعي من علوم ومنهاج المدرسة الصوفية بمنزلة شيخ الإسلام الإمام أحمد ابن تيمية من علوم ومنهاج مدرسة الفقه والعقيدة.

بين المُلك والعبودية
عن أبي هريرة رضي الله عنه , عن أم المؤمنين عائشة , رضي الله عنها قالت : قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : {أتاني ملك جرمهُ يساوي الكعبة فقال‏:‏ اختر أن تكون نبياً ملِكاً أو نبياً عبداً، فأومى إلي جبريل أن تواضع لله، فقلت‏:‏ بل أُحب أن أكون نبياً عبداً، فشكر ربي عز وجل ذلك فقال‏:‏ أنت أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع} رواهُ أبي يعلى في مُسنده.‏

لقد ألزمَ الله عز وجل وليهُ وعبدهُ أحمد الرفاعي أدب وتواضع نبيهُ وعبدهُ محمد (عليه وآله الصلاة والسلام), فاختار لهُ الدخول من باب العبودية والانكسار لهُ سبحانهُ وتعالى الواحد القهار, وهو بابٌ قل رُوادهُ وعزَ طُلابهُ إلا من شاء الله أن يدخلهُ فيه من أحبابهُ, والداخل إلى الله من هذا الباب يصير شديد القريب من ملكوت الله ومعرفته, وأبعد ما يكون عما سِواه من زينة الدنيا ومشاغلها ومناصبها وشُهرتها.
وإذا كسر العبدُ شموخ نفسهِ وكبرياءها طاعةً للمعبود, أعزهُ الله ورفعهُ مكاناً علياً في هذا الوجود, وقد قامَ بٌنيانُ هذه الأُمة ومُلكها العظيم على أكتاف رجالٍ عابدين زاهدين قلوبهم خاشعة مُنكسرة لرب العالمين, وإن ما تهدم من بنيان هذه الأمة بعد أن مضى عهد الأوليين, لم يكن ليُرمم ويُعاد بناءهُ إلى على طريقتهم في العبادة الخالصة والتجرد لرب العالمين, وهذا ما تحقق في عهد الإمام أحمد الرفاعي, حيثُ استعادة الأمة الريادة والرياسة والزمام بعد نوبةٍ طويلةٍ من الزيغ والزيف والأوهام.  

دورهُ في إصلاح الأمة
روى أبو داود في سُننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : {إنَ اللهَ يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مَائة سنة من يجدد لها دينها}.
[والتجديد يشمل أمراء العدل , وقادة الجهاد والفتح , وأوفرهم حظاً منه العلماءُ بالله تعالى الذين تنقلب بهم أحوال العبد من الغواية إلى الهداية, ومن البعد إلى القرب, ومن القطع إلى الوصل, وتُفرَغُ بسبب عَوالي هِمَمِهم مكارمُ أخلاق النبي (صلى الله عليه وسلم) في الأمة فتنهض من البَطَالة إلى العمل الصالح, ومن الخزي والفشل إلى العزِ بالله والوِفاق فيه, ومن التمسك بصالح النفس وإهمال صالح المسلمين إلى التمسك بصالح المسلمين وإهمال صالح النفس.
وقد مثل الدور الذي قام به الإمام الرفاعي أنموذجاً راسخاً في الإصلاح والتجديد على مَرِ الزمان , وشكل بمنهجه التربوي النقي الجناح الأيمن للدولة الإسلامية , وكان لهُ ولمدرسته دورٌ فعال ظلت تذكرهُ كتب التاريخ, وتمثُل أهم أدوارهم بصد الغزو الفكري, والتمزق المذهبي, والتشرذُم الإقليمي, والتطرف الجاهلي, وساهموا بدفع عجلة العلم والعمل والجهاد بنوعية] (9).

وتأكيداً على هذا الكلام عن الدور المؤثر للأئمة الأكابر من السادة الصوفية وغيرهم في نهضة وتحرر الأمة أنقل لكم بعض ما جاء في كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) للمؤلف: د. ماجد عرسان الكيلاني، والذي قال في مقدمة الكتاب: "إن هذا الكتاب دعوة إلى اعادة قراءة تاريخنا واستلهام نماذجه الناجحه، ودعوة إلى فقه سنن التغيير وكيف ان ظاهرة صلاح الدين ليست ظاهرة بطولة فردية خارقة ولكنها خاتمة ونهاية ونتيجه مقدرة لعوامل التجديد ولجهود الامة المجتهدة، وهي ثمرة مائة عام من محاولات التجديد والإصلاح. وبذلك فهي نموذج قابل للتكرار في كل العصور.

هذا الكتاب هو فاتحة سلسلة جديده عن حركات الإصلاح في تاريخ الامة الإسلامية. وهو يتعرض اولا للتكوين الفكري للمجتمع الإسلامي قبل الحروب الصليبية، واثار اضطراب الحياة الفكرية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ذلك الوقت، ثم يتحدث عن مراحل الإصلاح فيبدا بالمحاولات السياسية للإصلاح ويخص منها دور الوزير في نظام الملك ثم مشروعات التجديد والإصلاح الفكرية والتربوية، ويستعرض منها ادوار عدد غير قليل من الائمة المصلحين كالإمام أبو حامد الغزالي، وعبد القادر الجيلاني وعدي بن مسافر، ورسلان الجعبري وعثمان بن مرزوق القرشي، ويبين الاثار العامه لهذه المحاولات والمشروعات الإصلاحية، ويحلل هذه الاثار ويقومها، ويخرج في النهاية بقوانين وسنن تاريخية مع بيان تطبيقاتها المعاصرة في الامة".

وقد ثبت في كتب التاريخ والسيرة أن السلطان الفاتح المجدد صلاح الدين الأيوبي كان مسلمًا متصوفًا اتبع المذهب السني والطريقة القادرية، وبعض العلماء كالمقريزي، وبعض المؤرخين المتأخرىن قالوا: إنه كان أشعريًا، وإنه كان يصحب علماء الصوفية الأشاعرة لأخذ الرأي والمشورة، وأظهر العقيدة الأشعرية (10).

وجاء في تعريف التصوف: "انتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفية. والتاريخ الإسلامي زاخر بعلماء مسلمين انتسبوا للتصوف مثل النووي والغزالي والعز بن عبد السلام كما القادة مثل صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح والأمير عبد القادر وعمر المختار وعز الدين القسام" (10).

 قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
ولقد قَيضَ اللهُ تبارك في عُلاه لهذه الأمة ببركة وليهِ أحمد الرفاعي ودأبهِ الكبير على نهج جدهِ –صلى الله عليه وآله وسلم- في العلم والعبادة الخالصة البالغة عنان السماء الملوك والخلفاء العادلين المُجاهدين المُتطهرين , ولم يكد ينتهي قرنهُ المبارك وعهدهُ الميمون حتى كتب اللهُ للسلطان المُجاهد المُنجد (صلاح الدين الأيوبي) فتح بيت المقدس وتطهيرها من دَنسِ الصليبيين في عام (583) هجرية, أي بعد مرور نحو خمسة (5) أعوام على وفاة الإمام الرفاعي - رحمه الله- التي كانت في عام (578) هجرية في أم عبيدة بواسط العراق, عن عمر يُناهز ستة وستون (66) عام وستة أشهر.
والمصادفة القُدسية هي أن الفترة الزمنية بين وفاة الغوث أحمد الرفاعي وفتح بيت المقدس, تكاد تتساوى مع الفترة الزمنية التي كانت بين وفاة جدهِ الرحمة المُهداة محمد بن عبد الله (عليه وآله الصلاة والسلام) وفتح بيت المقدس, حيث كان انتقال النبي الكريم إلى رحمة الله الرحيم في بداية عام (11) هجرية, وبعدها بما يزيد عن أربعة (4) أعوام وتحديداً في العام الخامس عشر (15) للهجرة, جاء نصرُ الله المنان بسيف أبي سليمان (خالد بن الوليد) رضي الله عنه وجندهُ, الذين فتحوا بلاد العراق والشام ووقفوا على أسوار القدس بانتظار مجيء خليفتهم مُرقع الثوب قصير الإزار, الماشي على قدميه وغلامهُ راكب الحمار,  الفاروق العظيم (عمر بن الخطاب) الذي غاصت نعليه بالطين في سهول فلسطين, والذي دخل بيت المقدس واستلم مفاتيحهُ من القساوسة والرُهبان تصديقاً لوعد الرحمنَ الذي كُتب في صُحف التوراة والإنجيل قبل أن ينزل القرآن.

لطيفة: كما ذكرت فقد أتم الباري عز شأنهُ فتح بيت المقدس للمسلمين على يد القائد صلاح الدين على إثر بيعة الإمام أحمد الرفاعي وتبعاتها, ولعلها أكثر من مجرد صدفة, أن يكون الممثل الذي لعب دور (صلاح الدين) في الفيلم المصري الشهير (الناصر صلاح الدين) اسمهُ (أحمد), حيثُ قام الممثل القدير (أحمد مظهر) ببطولة الفيلم الذي أخرجه الراحل يوسف شاهين في سنة (1963م).

المهدي الأوسط
عن أبي جعفر محمد بن علي , عن أبيه, عن جده, أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: {أبشروا أبشروا, إنما أمتي كالغيث, لا يُدرى آخرهُ خيرٌ أم أولهُ, أو كحديقةٍ أُطعمَ منها فوجٌ عاماً , لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها عرضاً , وأعمقها عُمقاً, وأحسنها حُسناً, كيف تهلك أُمةٌ أنا أولها, والمهدي أوسطها, والمسيحُ آخرها, ولكن بين ذلك ثبجٌ أعوج , ليس مني, ولا أنا منهم} أخرجهُ الإمام أبو عبد الرحمَن النسائي, في (سُننه). 
عند ذكر الإمام المهدي (عليه السلام) فإن الأفكار والأذهان  تذهب إلى الإمام المنتظر الذي يخرج في آخر الزمان قبل نزول المسيح عيسى ابن مريم (عليهم السلام), وهذا حق وهو الأصل, إلا أن هناك ثُلة معلومة من رجال الآل (عليهم صلوات الله وسلامه) يشابهون الإمام المنتظر في هِدَايتهِ وبعض أحواله, وإن السامع الواعي لبواطن الأخبار, يستطيع معرفة الرجال الذين تنطبق عليه الصفات التي جاءت بها الأحاديث والآثار بالاشتراك مع الحُجة المُنتظر (عليه السلام).
ومن ضمن ذلك هذا الحديث, الذي نستدل منهُ بشكل كبير على أن المقصود ضمناً بقوله (عليه الصلاة والسلام): {والمهدي أوسطها}, هو الإمام الغوث أحمد الرفاعي (قَدَسَ الله سِرَه).
- حيث أن زمان بعث الإمام الرفاعي في القرن السادس الهجري هو مائل إلى الوسط تقريباً بين زمان بعث النبي محمد, وزمان نزول المسيح عيسى ابن مريم - عليهم الصلاة والسلام - في هذا القرن الخامس عشر هجري بإذن الله تعالى, وهذا الترتيب الزماني يوافق قوله (عليه الصلاة والسلام): { كيف تهلك أُمةٌ أنا أولها, والمهدي أوسطها, والمسيحُ آخرها }.
- إلا أن الشيء الأهم من هذا هو وجود عِلة وقضية مصيرية مشتركة بين أزمان بعث كلاً من النبي وحفيده الرفاعي والمسيح -عليهم الصلاة والسلام-, وهي ضياع بيت المقدس وأسرهُ وسقوطهُ في أيدي أهل الكفر والطغيان.
فكان نبينا محمد (عليه الصلاة والسلام) هو أول الغيث الذي مهد الله بهديهِ الطريق لفتح بيت المقدس وتطهيره واسترجاع هيبته وقدسيتهُ المفقودة, ليعود بيتاً مُعظماً للمؤمنين كما كان في زمان أنبياء بني إسرائيل (عليهم السلام).     
ثم كان إمامنا أحمد الرفاعي هو الولي الغوث الذي جدد الله به ما فتحه على جده -عليه وآله الصلاة والسلام- من أسباب القوة والنصر, فأذاب أخيار هذه الأمة بهذا النور الرباني الجديد جبال الجليد التي حالت بينهم وبين دخول بيت المقدس طوال نحو 9 عقود.
وأخيراً, وبعد عودة بيت المقدس إلى الظُلمةِ والأحزان, فإنهُ كما هو ثابتٌ في الأثر فإن المسيح عيسى (عليه السلام) ينزلُ في آخر الزمان من السماء كالغيث على أهل الإيمان, فيقتل المسيح الدجال ومن تبعهُ من الكافرين على ثرى فلسطين, وينصرهُ الله بعد ذلك على قوم يأجوج ومأجوج العُلوج الشرهين, وترفرف بعد ذلك راية السلام والدين, وينهزم الكفار والمعتدين.
   
في بيان أنهُ أبو الأئمة وأن المهدي المتتظر وريثهُ المُباشر
عن سالم الأشَل , قال : سمعتُ أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام يقول: {نظرَ موسى عليه السلام في السِفْر إلى ما يُعطى قائمُ آل محمد , (صلى الله عليه وسلم) , فقال موسى : ربِ اجعلني قائمَ آلِ محمد. فقيل له: إنَ ذلك من ذرية أحمد. فنظرَ في السِفْر الثاني, فوجد فيه مثل ذلك, فقالَ مثلَ ذلك, فقيل لهُ مثلَ ذلك. ثُمَ نظر في السِفْر الثالث, فرأى مِثلَه, فقال مِثلَه, فقيل لهُ مِثلُه} (11).
{قائم آلِ محمد}: هو أحد أئمة آل البيت الكرام (عليهم السلام), والمقصود من القائم في هذا الحديث على وجه الخصوص هو الإمام المهدي المنتظر.  
إن أمنية موسى ابن عمران في أن يكون هو قائم آل محمد (عليهم الصلاة والسلام), قد سَرتْ عبر الأزمان حتى لَبِسَ قائم آل محمد عباءة موسى بن عمران (عليهم السلام), وإن كان الله لم يؤتي موسى ابن عمران سؤلهُ بجعلهُ قائماً مُباشراً لآل خير الأنام محمد (عليهم الصلاة والسلام), فقد عوض الله موسى عن سؤله القوامة لآل محمدٍ ثلاث, بأن جعل ثلاثة من أئمة آل بيت محمد يقومون بيومهُ واسمهُ وسُنتهُ, فكان قدرُ الإمام الثالث الحسين بن علي (عليهما السلام), وهو القائم المُنطَوي تحت السِفر الأول, أن يقوم لقتال أعداءه في يوم العاشر من مُحرم, وهو اليوم الذي خرج فيه موسى (عليه السلام) من أرض مصر تنفيذاً لمشيئة الرحمَن, الذي أنجاهُ وأغرق فرعون وهامان.
بينما كان قدرُ الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام), وهو القائم المنطوي تحت السفر الثاني, أن يحمل اسم موسى ابن عمران (عليهما السلام).
وأخيراً, فقد قَدرَ الله للإمام الثاني عشر محمد المهدي المنتظر, وهو القائم المنطوي تحت السفر الثالث, أن يسير على سُنة موسى بن عمران (عليهم السلام) في إهلاك الظالمين وقصم الجبارين بعد خوفٍ وضياعٍ يدوم سنينٍ. عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: {... ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة، فينفر المهدي منها إلى مكة فيبلغ أمير جيشه السفياني أن المهدي قد خرج إلى مكة، فيبعث جيشاً على أثره، فلا يدركه حتى يدخل مكة خائفاً يترقب، على سُنة موسى بن عمران، عليهما السلام. وينزل أمير جيش السفياني بالبيداء، فينادي منادٍ من السماء: يا بيداء أبيدي القوم. فيخسف بهم، فلا يفلت منهم إلا ثلاث نفر، يحول الله تعالى وجوههم إلى أقفيتهم، وهم كلب, ...} (12).
وكما بعثَ اللهُ السيد أحمد الرفاعي على قلبِ نبي النصارى عيسى (عليه الصلاة والسلام)  في زمن احتلال الصليبيين لبيت المقدس وتخْرِيبه , فإنهُ سيبعث المهدي المنتظر على قلبِ أنبياء اليهود وبشكلٍ خاص نبيهم العظيم وإمامهم المُبين موسى بن عمران (عليهم الصلاة والسلام أجمعين), في هذا الزمان الذي نزلَ فيهِ اليهود بيت المقدس وأسروهُ والتفوا حولهُ كالأفعى التي ما أن تنتهي من خنق فريستها حتى تهِم بابتلاعها.

عن حُذيفة بن اليمان , رضي الله عنه , عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , في قصة السُفياني , وما يفعلهُ من الفُجور والقتل , فقال : {فعندَ ذلك يُنادي مُنادٍ من السماء : يا أيها الناس , إن الله عز وجل قد قطعَ عنكم مُدة الجبارين والمُنافقين وأشياعهم. و ولاكم خير أمة محمد (صلى الله عليه وسلم), فالحقوا به بمكة, فإنهُ المهدي, واسمهُ أحمد بن عبد الله}. قال حُذيفة : فقام عمران بن الحصين الخُزاعي , فقال : يا رسول الله , كيف لنا بهذا, حتى نعرفه؟ قال : {هو رجُلٌ من ولدي , كأنهُ من رجال بني إسرائيل , عليه عباءتان قَطوانيتان , كأن وجههُ الكوكب الدُري في اللون, في خده الأيمن خالٌ أسود , ابن أربعين سنة}.
قطوانية: عباءة بيضاء قصيرة الخمل. (13).
قال تعالى :{وقال لهم نبيهم إن آية مُلكهِ أن يأتيكم التابوت فيه سكينةٌ من ربكم وبقيةٌ مما تركَ آلُ موسى وآلُ هارون تحملهُ الملائكة. إن في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين 248} البقرة.
عن سليمان بن عيسى , قال : {بلغني أنه على يدي المهدي يظهر تابوت السَكينة من بحيرة طبرية , حتى يُحمل , فيوضع بين يديهِ ببيت المقْدس , فإذا نظرت إليه اليهُود أسلمت إلا قليلاً منهم} (14).
وفي هذا الحديث إشارة غيبية تحقق نصفها بنزول اليهود بيت المقدس وتمركزهم حوله , وبقي أن يتحقق النصف الآخر بخروج الإمام المهدي (عليه السلام) إليهم بعد أن يبعثهُ اللهُ غياثاً للمسلمين والإسلام.

قال تعالى في سورة البقرة : {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} آية 50.
عن كعب الأحبار رضي الله عنه, في قصة فتح القسطنطينية, قال : {فيركز لواءه - يعني المهدي عليه السلام - ويأتي الماء ليتوضأ لصلاة الصبح . قال : فيتباعد منه , فإذا رأى ذلك أخذ لواءه , فاتبع الماء حتى يجوز من تلك الناحية, ثم يركزه, ثم ينادي : أيها الناس, اعبُروا, فإن الله عز وجل قد فَرَقَ لكم البحر كما فَرَقهُ لبني إسرائيل. قال : فيجوز الناس, فيستقبلوا القسطنطينية, فيُكَبرون, فيهتزُ حائطها, ثم يُكبرون فيهتز, ثم يُكبرون فيسقط منها ما بين اثني عشر بُرجاً} وذكر باقي الحديث. (15).

وعودةً إلى حديث الإمام الباقر عليه السلام عن (قائم آل محمد) المذكور في أول الفقرة, ولنتوقف قليلاً عند جملة: {إن ذلك من ذرية أحمد}, والتي يُشير معناها الظاهر المباشر إلى أن قائم آل محمد إنما هو من ذرية محمد وعقبه (عليه وآله الصلاة والسلام), إلا أنني أود من خلال هذه الجملة بيان معاني وحقائق ربما تكون غائبةً عن ذوي العلم والأفهام:
أولاً: إن عقد الدُرر لأئمة آل محمد الإثنى عشر قد بدأ في أول هذا الأمر بأمير المؤمنين علي, وتتابع حتى انتهى عند الدُرة الحادية عشر وهو الإمام الحسن العسكري (عليهم صلاة الله وسلامه جميعاً), ثم توقف بعد ذلك تتابع دُرر هذا العقد الذي تبقى لاكتمالهِ دُوُرةً واحدة, ثُم أذن الله في وسط الزمان ببعث الإمام رفيع الشأن أحمد الرفاعي عليه السلام, وهو وإن كان من سُلالة أئمة آل محمد وأعلامهم المهديين في الطين والدين (عليهم الصلاة والسلام أجمعين), إلا أنهُ ليس الدُرة الأخيرة التي يكتملُ بها ذلك العقد النبيل من الأئمة, والتي يكون اكتمالها في آخر الزمان ببعث أبي عبد الله المهدي الذي يصلي خلفهُ عيسى الذي كلم الناسَ في المهدِ (عليهما الصلاة والسلام). ونستنتج من هذا التسلسل في أئمة آل محمد (عليه وآله الصلاة والسلام), والذي في أوله المُرتضى علي ووسطه أحمد الرفاعي وآخره الحُجة المهدي, المعنى الخفي الأول لجملة: {إن ذلك من ذرية أحمد}, وهو أن القائم الأخير المهدي المنتظر يأتي بعد الإمام أحمد الرفاعي ذو الباع الطويل ويعقُبهُ في الزمان والعلمِ والمقام.

ثانياً: إن الإثنى عشرية ليست مذهباً استحدثهُ الإسلام, ولكنها كانت موجودة في قديم السُنن والأديان كما جاء في القرآن, قال تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أُمماً} [160, الأعراف].
وقد كان إبراهيم الخليل هو المؤسس الأول لعقيدة وديانة أسباط بني إسرائيل (عليهم صلاة الله وسلامه), وعلى الجانب الآخر فإن الحبيب محمد (عليه وآله الصلاة والسلام) هو المؤسس الأول لعقيدة وديانة أئمة آل بيته الإثنى عشر.
  
قال تعالى: {وقالوا لا تذرُنَ آلهتكم ولا تذرُنَ وَداً ولا سُواعاً ولا (يغوث ويعوق) ونسراً 23} سورة نوح.
فإذا كان (يعقوب) هو أبو الأسباط الإثنى عشر ومن ضمنهم أخوهم النبي عظيم القَدر يوسف (عليهم صلاة الله وسلامه), فمن عساهُ أن يكون أبو أئمة الآل الإثنى عشر؟
ومن هذا التساؤل نستخلص المعنى الأكثر عُمقاً لجُملة: {إن ذلك من ذرية أحمد}, وهو أن الإمام (الغوث) أحمد الرفاعي الكبير هو بمثابة الأب الروحي لقائمي وأئمة آل محمد الإثنى عشر (عليهم صلاة الله وسلامه جميعاً), فهو شمسُ الآل الساطعة التي أضاءت بطلعتها ما قبلها وما بعدها.  

قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ 4} سورة يوسف.
إن كل إمام من قائمي الآل الإثني عشر الكرام يكون في زمانهِ وولايته بمنزلة يوسف الصديق (عليهم السلام), بينما يكون مصابيح الهُدى الأئمة الأحد عشر الآخرين بمنزلة الكواكب الدُرية التي تدور في فلك الإمام صاحب الزمان, ويكون الغوث أحمد الرفاعي الكبير بمنزلة الأب, والشمس التي لا تغيب عن أي إمامٍ في أي زمان, قال تعالى: {.. وأبونا شيخٌ كبير} [آية 23, القصص], وأما القمر المُنير فهو السيدة فاطمة الزهراء البتول ابنة الرسول, وزوجة الإمام علي, وأم بقية أئمة آل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وسجود الأئمة الأحد عشر وشمسهم (أحمد) وقمرهم (فاطمة) للإمام صاحب الزمان (عليهم جميعاً من الله الرضوان), يعني أنهم يعترفون بفضلهِ ويُثنون عليه, ويعظمون شأنهِ ويرفعون مقامهِ, ويؤيدونهُ ويطلبون لهُ النصر والظُهور في الأرض. 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ر ب العالمين, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.

الهوامش:
1- هذه الفقرة منقولة من كتاب (قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعهُ الأكابر).
2- من كتاب (الإمام السيد أحمد الرفاعي) من تأليف السيد مصطفى الرفاعي الندوي.
3- من كتاب (رموز الفقراء) ص 8.
4- أخرجهُ الحافظ أبو نعيم في (صفة المهدي).
5- من كتاب (منشور البُشرى والهُدى) لفضيلة الشيخ ناصر الدين الخطيب.
6- رواهُ أبو مالك الأشعري , بإسنادٍ حسن (كتاب الترغيب والترهيب).
7- (كتاب الترغيب والترهيب).
8- من كتاب (الإمام السيد أحمد الرفاعي).
9- اقتباس من كتاب (منشور البُشرى والهُدى).
10- (موقع ويكيبديا).
11- من كتاب (عقد الدرر في أخبار المنتظر).
12- عقد الدرر, الفصل الثاني, وفيه الخسف بالبيداء وحديث السفياني.
13- أخرجهُ الإمام أبو عمرو المُقري في (سُننه).
14- أخرجهُ الحافظ نعيم بن حماد في كتاب الفتن.
15-  أخرجهُ الإمام أبو عمرو المُقري في (سُننه).


* نُشر لأول مرة في مدونة (ولي الدين والمسبار السحري) بتاريخ 20-1-2008
من فكرة وإعداد: م. وليد أحمد القراعين  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق